أحمد القديدي يكتب لكم: أسرار مجهولة عن العدوان الثلاثي على مصر

مصر

كتب: د. أحمد القديدي

أكتوبر 1956 – أكتوبر 2021

غريب أمر العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، فبعد 65 عاما من أحداثه لاتزال تلك الحرب تسيل الحبر وتطرح الاسئلة وتثير المفاجآت. وآخر ما صدر حول ذلك العدوان هو كتاب لمؤرخ اسرائيلي اسمه «موتي جولاني» الذي صدر في امريكا وبريطانيا تحت عنوان «اسرائيل تبحث عن حرب». وصدر أخيرا في باريس عن مؤسسة نشر «دي روسي» تحت عنوان مختلف هو «حرب سيناء».

وتبارى مؤرخون وجامعيون أوروبيون وأمريكيون للتعريف بالكتاب وقامت المجلات الاكاديمية المحترمة بالثناء عليه  كمرجع وثائقي يعيد الحقائق التاريخية الى منطلقاتها.

وثائق جديدة

والجديد في الأمر أن هذا المؤرخ الاسرائيلي كان أول من قرأ الوثائق الاسرائيلية والفرنسية بعد الإفراج عنها من قبل الدولتين الحليفتين في تلك الحرب القذرة. فالوثائق حسب القانون الاسرائيلي تحظى بطابع السرية التامة الى أن قرر رئيس الوزراء الاسرائيلي وضعها على ذمة الباحثين. ولا تنضبط دولة اسرائيل في ذلك إلا بضوابط مصالحها الاستراتيجية فإذا ما قررت الحكومة ان وثائق حرب 48 او وثائق عدوان 56 أو حرب 67 أوحرب 73 يمكن أن تخدم آلة الدعاية الصهيونية فهي ترفع عنها خاتم السرية وتوظفها لضرب معنويات الشعب الفلسطيني و العرب حسب مخططات يسهر عليها جامعيون اسرائيليون متعاملون مع جهاز المخابرات والدعاية.
أما في فرنسا فالأمر مختلف لأن الكشف عن الوثائق يخضع لقانون النصف قرن فبعد واحد و ستين عاما يمكن أن يدعى الجامعيون الى الاطلاع على الوثائق واستغلالها حسب تخصصاتهم.
وهكذا فعلت الحكومة الفرنسية مع وثائق العدوان الثلاثي بعد إتمام نصف القرن مع استثناء، لان الادارة الفرنسية تعتقد أن هذه الوثائق يمكن أن تساعد على دفع خط السلام الإسرائيلي العربي الى الامام.. او ربما لتبرئة ساحة الدولة الفرنسية بإلقاء تبعات ذلك العدوان على بعض الساسة اليساريين الذين أمسكوا بدفة الحكم في الخمسينيات.
على كل نشر هذا المؤرخ الاسرائيلي جملة من الوثائق والصور الفوتوغرافية قبل العرب بل ان العرب الذين كانوا طرفا بل ضحية لذلك العدوان لم يطلعوا على الوثائق ولم يستخلصوا منها العبرة. قامت المجلة الفرنسية «مغامرات التاريخ» بنشر أهم هذه الوثائق والصور تحت عنوان: «اسرار السويس» وبعنوان فرعي مطول يقول: «في عام 1956 كان الفرنسيون متورطين في حرب الجزائر وكان الاسرائيليون خائفين من الفناء في المستقبل وكان البريطانيون حالمين بالعودة للشرق الاوسط وتعاون ثلاثتهم ضد عبدالناصر لأنهم يعتبرون مصر عدوتهم الاولى والنتيجة فشل ذريع».
هكذا قدمت المجلة هذه الوثائق اما الوثائق في حد ذاتها فهي هامة جدا واذا تجاوزنا العدوان ذاته واحداثه المعروفة فاننا نكتشف عناصر جديدة.

تحالف ضد مصر

فالأحداث هي تحالف الدول الثلاث ضد مصر لكن الوثائق تؤكد ان اسرائيل هي التي خططت العدوان وجرت معها كلا من فرنسا وبريطانيا لتغطية عدوانها على مصر! تقول الوثائق أن الفكرة الاولى للهجوم عبر عنها الجنرال موشي دايان الذي شغل منصب القائد العام للقوات المسلحة من 1953 الى 1956 وكان يعتقد ان هجوما وقائيا على مصر سيحقق بقاء اسرائيل «المهددة» ولكنه كان يؤمن أنه لابد لاسرائيل من حليف قوي لا يمكن أن يكون غير فرنسا التي تعاني من حربها الجزائرية وتشكو من المساعدات العسكرية والسياسية والاعلامية التي يتلقاها المجاهدون الجزائريون من عبدالناصر وكان دايان يحاول اقناع ديفيد بن جوريون مؤسس الدولة العبرية بأهمية بل وحتمية تدمير السلاح المصري وفتح قناة السويس وضرب زعامة عبدالناصر العائد منتصرا من قمة دول عدم الانحياز التي انعقدت في باندنج عام 1955 والذي كان يساعد الجنرال دايان في مهمة الاقناع رجلان اسرائيليان هما: ارييل شارون الذي كان يقود اللواء 202 للجيش الاسرائيلي وشيمون بيريز الذي كان مديرا لمكتب رئيس الوزراء موشي شاريت.
تقول الوثائق على لسان المسمى (ابيل توماس) مدير مكتب وزير الدفاع الفرنسي «ورجس مونودي» ان شيمون بيريز يعتبر كذلك من أقرب مساعدي مؤسس الدولة العبرية ديفيد بن جوريون وقد قام بزيارة سرية الى باريس في يوم من أيام شهر أوت 1956 وقابل صديقه الصحفي الفرنسي من اصل يهودي (ادوارد سابليي) وسأله: من هم أصحاب القرار الحقيقيون في باريس؟ و قام (سابليي) بإعداد قائمة بأهم رجالات الحكومة والجيش والمخابرات وسلمها الى بيريز وكان بيريز يقول في باريس: انها قضية حياة أو موت بالنسبة لاسرائيل وان عبدالناصر حصل على طائرات ميج وهو يستعد لغزو اسرائيل وتدميرها. وتضيف الوثائق كذلك ان (ابيل توماس) مدير مكتب وزير الدفاع الفرنسي هو الذي توسط لاسرائيل في ثلاثة ملفات كبرى مع فرنسا وهي:
1 ـ اشتراك فرنسا في العدوان الثلاثي.
2 ـ تسليح الجيش الاسرائيلي من قبل فرنسا.
3 ـ الاشراف على البرنامج النووي الاسرائيلي وبناء مفاعل ديمونا.

وتضيف الوثائق شارحة النقطة الثانية أي التسليح فتقول: لقد جاء شيمون بيريز ومعه قائمة طويلة عن احتياجات اسرائيل للسلاح فاذا بها قائمة عجيبة لأن الطرف ـ او الحليف ـ الفرنسي لم يكن يتوقعها، وهي تضم احتياجات اسرائيل التالية: ـ 270 طائرة حربية من طراز ميستير. قررت الحكومة الفرنسية ارسالها على ثلاثين دفعة كل دفعة تضم تسع طائرات خلال ثلاثة أشهر. وتقول ان هذه الطائرات وصلت الى اسرائيل في نطاق السرية والكتمان حتى الأمريكان لم يكونوا على علم بالصفقة بالرغم من ان الرادارات الامريكية اكتشفت احدى هذه الدفعات من احدى محطاتها بايطاليا في ميناء (برنديزي) وخاطبت القيادة الأمريكية وزارة الدفاع الفرنسية فأجابها وزير الدفاع (بونوري) ان الأمر لا يعدو أن يكون استعراضا جويا في سماء فرنسا بطائرات ميستير.

أسرار جديدة

وتضيف الوثائق أن الغريب في الامر هو ان سعر هذه الطائرات كان مدفوعا ـ كاش ـ بالدولار الأمريكي مما مكن المصنع الحربي الفرنسي «مارسال داسو» من الانطلاق بالصناعة الحربية الجوية الفرنسية انطلاقتها الكبرى لمزاحمة الصناعة الأمريكية. ومن غرائب الاسرار ان الجنرال (ديجول) كان على علم وكان يلح على إشراك بريطانيا في العملية وكان رئيس الحكومة البريطانية آنذاك هو (انتوني ايدن) ووزير خارجيتها (سولين لويد) وهما من المتعاطفين التقليديين مع اسرائيل. والذي يتأمل الصور المنشورة يتأكد من صحة كل هذه الأسرار ويدرك ان العدوان الثلاثي كان بإرادة اسرائيل وتسهيلات كبرى فرنسية وبريطانية، اما ما جاء بعده من تهديد امريكي واخر سوفييتي فهو لم يفد شيئا لأن المعادلة أو الغاية كانت اضعاف عبدالناصر وتغيير قواعد اللعبة الشرق أوسطية على مدى جيل كامل. واني اتساءل أين المؤرخون العرب وأين مراكز البحوث والدراسات العربية؟ ولماذا لم تتحرك جامعاتنا للافادة من هذه الوثائق وقراءتها واطلاع الرأي العام العربي عليها بل واستخلاص العبرة الكبرى منها خدمة للمستقبل وتوضيحا لملابسات أحداث هامة لها تأثير مباشر على ما يجري اليوم على ارض فلسطين من تدمير وابادة وتقسيم للصفوف العربية؟ أين العرب؟