أحمد القديدي يكتب لكم/ فرنسا ومسلموها…قيم الجمهورية تنتصر على العنصرية

كتب: د.أحمد القديدي
هزت جريمة إرهابية أخرى الرأي العام الفرنسي و العالمي حين طعن شاب من أصل تونسي معتوه (تحت العلاج العقلي) شرطية فرنسية بريئة أما لولدين وهي جريمة صنفت منطقيا ضمن الإرهاب لأن هذا المجرم المريض صرخ (الله أكبر) تعالى الله عما يصفون!
ولكن عديد المنفلتين المصابين بأمراض عقلية يقتلون أبرياء في فرنسا و في العالم دون إثارة حساسيات سياسية تتعلق بالوضع الانتخابي فالرئيس المباشر ماكرون يواجه تحديا كبيرا من اليمينية المتطرفة (مارين لوبان) التي نافسته في انتخابات 2017 و ستكون أقوى في انتخابات 2022 مما يضع على طاولة الجدل و السباق المحموم ملف الهجرة بل ملف الجالية المسلمة في فرنسا. بينما دولة القانون تتحرك للحد من المزايدات السياسية بقضية تواجد المسلمين في فرنسا و نتذكر كيف ألغى مجلس الدولة أعلى هيئة قضائية تلك القرارات العشوائية التي اتخذها بعض عمداء مدن فرنسية ساحلية لمنع النساء المسلمات من ارتداء (مايو) شرعي للسباحة لأسباب تتعلق بجلب الناخبين من الأحزاب اليمينية العنصرية الى حظيرة أحزابهم و حتى يتجدد انتخابهم!
و تداول الناس هنا فيديو على مواقع الإتصال يجلب العار لمن أساؤوا لسيدة محجبة لم تعتد على أحد و مع الأسف لهذه الدولة التي تأسست فيها مواثيق حقوق الإنسان و يظهر فيه بعض رجال الشرطة يجبرون سيدة فرنسية مسلمة على نزع ثيابها أمام أولادها و أمام جمهور فرنسي ساكت لم يستوعب خطورة هذه الممارسة الاعتباطية و علق بعض الفايسبوكيين قائلين مالفرق إذن بين دواعش يجبرون المرأة على لبس الحجاب و بين شرطة فرنسية تجبرها على نزعه ؟؟ كلاهما لا يحترم لا الحرية و لا المعتقد ! بهذا القرار العادل من مجلس الدولة تستعيد الجمهورية الفرنسية قيم العلمانية الحقيقية القائمة على إحترام كل الأديان و لا تسمح بشن حرب على دين من الأديان لأنه فقط مختلف !
انتصرت فرنسا الإنسانية ذات القيم الجمهورية العلمانية وهي ذات الأغلبية على فرنسا الأقلية العنصرية الجهولة ذات الذاكرة الحية من عهد الإستعمار. و الأحداث الأخيرة كما عشناها تختصر في مشادة وقعت منذ أسبوعين في أحد شواطئ جزيرة كورسيكا حين تهاوش شباب فرنسيون مع شباب مسلمين حول إحدى أخواتهم المحجبة فصارت بين الجانبين مشادة عادية كما يقع يوميا في أي مكان في العالم لكن هذه الحادثة البسيطة أخذت أبعادا سوسيولوجية و سياسية أكبر من حجمها فوظفتها التيارات اليمينية لغايات انتخابية و بدأ بعض رؤساء البلديات يتبارون في إصدار قرارات لمنع ما سموه تندرا (البركيني) أي مزج كلمتي بيكيني و برقع. و بدأ أوروبيون من أبناء الإتحاد الأوروبي و من الغرب يستهجنون هذه القرارات لما تحمله من إذكاء الكراهية بين أفراد الشعب الواحد و صب الزيت على نار الحركات العنصرية لإعلان حرب اجتماعية ضد دين من الأديان و تكلم عمدة لندن الصادق خان الذي انتقد ممارسات بعض العناصر العنصرية التي تغذي (الإسلاموفوبيا) في وطنه أو في أوروبا فقال أن ما وقع في فرنسا منكر جيب القانون
الدولي يجب تغييره. و بالفعل غير مجلس الدولة هذا المنكر. كما تكلم رئيس الشرطة في اسكتلندا (فيل غورملي) قائلا إن بلاده تشغل في شرطتها سيدات مسلمات و أقرت لهن لباسا رسميا بالحجاب إحتراما لعقيدتهن. و حتى في صلب قمة السلطة في باريس ذاتها نتذكر أنه عام 2016 عبرت وزيرة التربية و التعليم السيدة نجاة بلقاسم (وهي من أصل مغربي كانت راعية أغنام في المغرب و أصبحت وزيرة في فرنسا) عن رأيها بحماس لتعارض رئيس حكومتها السيد (فالس) فقالت أنها تعتبر منع اللباس الشرعي خطأ و تدشينا لمرحلة خطيرة من الحقد على خمسة ملايين مسلم مقيم في فرنسا أربعة أخماسهم حاصلون على الجنسية الفرنسية ومنهم الأطباء والمهندسين و العلماء و أبطال أولمبيون ورؤساء شركات و مصارف و كوادر عليا في الإدارة و الأمن.أنا شخصيا أعيش في فرنسا منذ اربعين عاما منذ جئتها منفيا من وطني مع رفاق درب من قدماء وزراء بورقيبة فأوتنا فرنسا و منحتنا اللجوء السياسي و ولد أولادي هنا و تربوا ما بين فرنسا ودولة قطر وهي الدولة العربية الوحيدة التي وهبتنا الأمان و شرف العمل فيها كما كنا نشارك في مؤتمرات فكرية في عديد الدول الأوروبية والخليجية. و كانت حياتنا في فرنسا متميزة بسبب ثراء الثقافة و تنوع الأعراق و توفر هامش الحرية المضمون بالدستور فلم نشعر يوما أننا مظلومون أو مضطهدون بل بالعكس وجدنا من بين نخبتها في أعلى المستويات من ساندنا و حمانا حين كنا مهددين بالمحاكمات الكيدية ومخاطر الجلب عن طريق أنتربول في بداية التسعينات.