عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه)؛ رواه البخاري ومسلم.
منزلة الحديث:
• هذا الحديث عظيم تتفرع منه آداب الخير، وقيل فيه: إنه نصف الإسلام؛ لأن الأحكام تتعلق بالحق، أو الخلق، وهذا أفاد الثاني[1].
• قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: هذا من جوامع الكلم؛ لأن القول كله إما خير وإما شر آيل إلى أحدهما، فدخل في الخير كل مطلوب من الأقوال فرضها وندبها، فأذن فيه على اختلاف أنواعه، ودخل فيه ما يؤول إليه، وما عدا ذلك مما هو شر أو يؤول إلى الشر، فأمر عند إرادة الخوض فيه بالصمت[2].
• قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله: هذا الحديث من القواعد العميمة العظيمة؛ لأنه بين فيه أحكام اللسان الذي هو أكثر الجوارح فعلًا، فهو بهذا الاعتبار يصح أن يقال فيه: إنه ثلث الإسلام[3].
• وقيل: هو من الآداب الإسلامية الواجبة[4].
سبب ورود الحديث:
كما في الجامع الكبير عن محمد بن عبدالله بن سلام: أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: آذاني جاري، فقال: ((اصبر))، ثم عاد إليه الثانية، فقال: آذاني جاري، فقال: ((اصبر))، ثم عاد إليه الثالثة فقال: آذاني جاري، فقال: ((اعمِدْ إلى متاعك فاقذفه في السكة، فإذا أتى عليك آتٍ، فقل: آذاني جاري، فتحق عليه اللعنة، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت))[5].
غريب الحديث:
• يؤمن: أي الإيمان الكامل.
• ليصمت: يسكت.
شرح الحديث:
((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر)) المراد بقوله: ((يؤمن)) الإيمان الكامل، وخصه بالله واليوم الآخر إشارة إلى المبدأ أو المعاد؛ أي: من آمن بالله الذي خلَقه، وآمن بأنه سيجازيه بعمله، فليفعل الخصال المذكورات[6].
((فليقل خيرًا أو ليصمت))، قال النووي رحمه الله: فمعناه أنه إذا أراد أن يتكلم فإن كان ما يتكلم به خيرًا محققًا يثاب عليه واجبًا أو مندوبًا، فليتكلم، وإن لم يظهر له أنه خير يثاب عليه، فليُمسِكْ عن الكلام، سواء ظهر له أنه حرام أو مكروه أو مباح مستوي الطرفين، فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورًا بتركه، مندوبًا إلى الإمساك عنه؛ مخافة من انجراره إلى المحرم أو المكروه، وهذا يقع في العادة كثيرًا أو غالبًا، وقد قال الله تعالى: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18][7].
وقال الإمام الجليل أبو محمد بن أبي زيد إمام المالكية بالمغرب في زمنه: جميع آداب الخير تتفرع من أربعة أحاديث: قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت))[8]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من حسن إسلام المرء: تركُه ما لا يعنيه))[9]، وقوله صلى الله عليه وسلم للذي اختصر له الوصية: ((لا تغضب))[10]، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))[11].
عن أبي عبيد قال: ما رأيت رجلًا قط أشد تحفظًا في منطقه من عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه[12].
وعن بلال بن الحارث المزني صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها سَخَطَه إلى يوم يلقاه))[13].
ويقال: مَن سكت فسَلِمَ كمَن قال فغَنِم، وقيل لبعضهم: لم لزمت السكوت؟ قال: لأني لم أندم على السكوت قط، وقد ندمت على الكلام مرارًا.
وقيل: اللسان كلب عقور، إن خُلِّي عنه عقر.
يموتُ الفتى مِن عَثْرةٍ بلسانِهِ
وليس يموتُ المرءُ مِن عثرةِ الرِّجْلِ
فعثرتُهُ مِن فِيه ترمي برأسِه
وعَثْرتُهُ بالرِّجْل تَبْرَا على مَهْلِ
وقال لقمان لابنه: لو كان الكلام من فضة، كان السكوت من ذهب، ومعناه – كما قال ابن المبارك -: لو كان الكلام في طاعة الله من فضة، لكان السكوت عن معصية الله من ذهب.
وقال ذو النون المصري رحمه الله: أحسن الناس لنفسه أملَكُهم للسانه.