الأمين الشابي يكتب: هل مازال الجار يكنّ للجار الاحترام و الرحمة و المودة و التآزر..؟

كتب: الأمين الشابي
أردنا في هذا الشهر الفضيل الابتعاد بقدر الإمكان عن الكتابة في مجال السياسة و الاقتصاد حتّى لا نعكّر على القارئ الكريم حلاوة هذا الشهر رغم ما يعانيه المواطن عموما من قلّة ذات اليد. وسنتولى في ” همزتنا و غمزتنا ” هذه تناول موضوع علاقة الجار بالجار عموما؟ و بالتالي ما هي حقوق الجار على الجار ؟ و لكن كيف هي في الواقع هذه العلاقة بين الجيران..؟ و قبل ذلك ما هو حدّ الجوار حتى نقول هذا جار أم لا ؟ و هذا التناول ليس من باب الموعظة بل من أجل تسليط الضوء على موضوع بات من الأهميّة بمكان بحكم ما يعيشه المجتمع من تفكك للأسف و الابتعاد عن القيم السمحة لديننا الحنيف في علاقة بالجار. واعتقادنا أيضا و أنّ الجار للجار رحمة و مودّة وتحابب وتآزر.
حـــــدّ الجـوار :
اختلف الفقهاء في حد الجوار، ومن هو الجار الذي له حق الجوار؟ إلى عِدَّة أقوال على النحو حيث ذهب الشافعية والحنابلة إلى أنّ حد الجوار أربعون جاراً في كل اتجاه، واستدلوا بما رُوي عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله – عليه الصلاة والسلام قال: (حَقُّ الجارِ أربعونَ دَارًا هَكَذا وَهكَذا وَ هكَذا وَ هكَذا يَمينًا وشِمالًا وقُدَّامًا وخَلْفًا). في حين ذهب المالكية إلى أن الجار هو الجار المُلاصق من أي جهة من الجهات، أو هو الجار المُقابل له بحيث يكون بينهما شارعٌ ضيِّقٌ، على ألا يفصل بين الجوار فاصلٌ كبيرٌ، مثل السوق أو النهر المُّتَسع، أو الجيران الذين يجمعهما مسجدٌ أو مسجدان مُتقاربان، إلا إذا دلّ العرف في بلدٍ على غير هذا الحد، فيُؤخذ بالعرف حينها في تحديد الجار. و اتجهة إلى ذلك المالكية على أساس الواقعة التالية : (أنَّ رجلًا أتَى النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يشكو جارًا له، فأمر النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- بعضَ أصحابِه أن يناديَ: ألا إنَّ أربعين دارًا جارٌ).[١ موكول لها الاحترام والتكريم للجار. و لكن أبو حنيفة ذهب إلى أنّ الجار هو الجار الملاصق في السكن و حجته على ذلك أنّ المجاورة هي الملاصقة الحقيقية.
حقوق الجار على الجار :
للجار على جاره حقوقٌ كثيرةٌ، ومن هذه الحقوق نذكر على سبيل المثال، الإحسان إلى الجار ( ما آمن بي من بات شبعانَ وجارُه جائعٌ إلى جنبِه وهو يعلم به )و إكرام الجار ( مَن كان يُؤمِنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فلْيُكرِمْ جارَهُ ) و المُحافظة على عِرض الجار وعدم خيانته و مُشاركة الجار مناسباته، فيواسيه في المصيبة، ويُشاركه ويفرح معه في مناسباته السعيدة. و حل مشاكل الجار وقضاء حوائجه. و إحسان الظن بالجار. و كف الأذى عن الجار، فقد رُوي عن رسول الله – عليه الصلاة والسلام – أنَّه قال: (لا يدخُلُ الجنَّةَ مَن لا يأمَنُ جارُه بوائِقَه). و للجار أن يعتب على جيرانه إذا بدر منهم ما يؤذيه، ولا يجوز أن يلجأ لافتعال المشاكل أو الردِّ على الإساءة بالإساءة، فإذا الجار وجد جاره يرد السيئة بالحسنة استحى وبادله الإحسان و من جملة الوصايا التي أوصى الله تعالى بها عباده المؤمنين الإحسان للجار وقد جاءت هذه الوصية في الآية ذاتها التي يدعو فيها سبحانه وتعالى للإيمان به، قال تعالى: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ ْجُنُبِ َالصَّاحِبِ ِالجَنبِ)
واقع العلاقات مع الجيران ليس على أفضل حال :
مع إطلالة الحياة العصرية، انهارت تلك العلاقة المميزة التي كانت تربط بين الجيران في الماضي، مثلما انهار واختفى كل شيء أصيل وجميل في حياتنا. وبسبب صعوبة الحياة وهمومها ومشاغلها، التي تزداد تعقيدا يوما بعد يوم، جعلت بعض الناس لا يجدون فرصة للتواصل وتعزيز العلاقات فيما بينهم، وأحياء العادات والتقاليد الأصيلة، التي نشأوا وتربوا عليها، والتي تحث على حسن معاملة الجار، وإسداء العون له، وتبادل الزيارة معه، والوقوف إلى جانبه، في السّراء والضراء، وفي أوقات الأفراح والأتراح.
و ليس من الواقعية التعميم بأن علاقات الأجوار تعيش أتعس الأوضاع و لكن أيضا و من باب التنسيب توجد نسبة عالية من الجيران تعيش علاقات متوترة للغاية. خاصة بسبب التوسع العمراني و ما ينتج عنه من خصام بين الجيران عند فتح نوافذ مطلّة على مسكن جاره و القضايا المنشورة في المحاكم أكبر دليل على هذا الإشكال القائم بين الجيران فضلا عن عدم احترام بعض الجيران لقيم و أخلاق و مبادئ الجوار التي تحتم حدّا أدنى من الاحترام فما بالك من يتجرّأ من الأجوار على التلفظ بألفاظ سوقية على مرأى و مسمع من جيرانه و أحيانا يكون متعمدا في ذلك بل يصل الأمر ببعض الأجوار إلى محاولة جسّ النبض من أجل التحرش و الاتيان بأفعال لا يقبلها لا العقل ولا الدين و حق الجوار لذلك قالوا قديما ” الجار قبل الدار ” بل وصل الأمر إلى حدّ التشابك بالأيادي بين جيران تربط بينهم أواصر القربى و لهم قضايا منشورة لدى المحاكم.
لماذا وصلت العلاقة بين الجيران إلى هذا الحدّ من الانحدار و الحال كان ماضينا يزخر بالعلاقات الطيبة بين الأجوار حيث كان الجيران إخوة بكل ما في الكلمة من معنى، يصونون حرمة بعضهم البعض، ويحافظون على العادات والتقاليد والأعراف، وهو ما كان يطمئن الجميع ويشعرهم بالأمان. كما أن أملاك الجار وما حَوَتْ دارُه، هي أمانة في عنق جاره إذا غاب عنها، وعليه الحفاظ عليها حتى يعود جاره. بل كانت استعارة بعض لوازم المطبخ منتشرة بشكل كبير بين الجيران، فلم يكن بمقدور أهل البيت شراء كل اللوازم والأواني المنزلية التي يحتاجونها في المطبخ، فكان الناس يستعيرونها من بعضهم البعض،. و كانوا يستعيرون من بعضهم بعض القهوة المطحونة لعمل فنجان قهوة للضيف، حيث لم تكن القهوة تتواجد باستمرار في البيوت، لأن الشاي كان هو المشروب الشعبي السائد، وكانت القهوة تقدم فقط للضيوف الغرباء، . وإذا نفذ الخبز من بيت احدهم، كان يستعير الجار بعض الأرغفة من جيرانه، ثم يردها إليهم في اليوم التالي..فأين نحن اليوم من كلّ هذا سوى المشاحنات و البغضاء و التنصت على بعض البعض و مراقبة حركات بعض البعض؟
لنختم هذه الورقة بدعوة مجتمعنا و الخيريين منه على وجه الخصوص وهم كثر إلى دعم هذه العلاقات بين الجيران بل ندعو تكوين جمعيات تتخصص في رأب هذا التصدع الخطير الذي أصاب العلاقات بين الأجوار و لم لا تنظيم حملات لتقريب الأجوار من بعضهم البعض بعيدا عن المشاحنات الجوفاء و ذلك من أجل بناء مجتمع متماسك و متعاون حتى يقدر على تجاوز المصاعب الجمّة التي تفرضها الحياة العصرية التي فرضت أحيانا نمط حياة سريع على حساب العلاقات الجيدة بين الأجوار .و لتكون كلمة النهاية على ما جاء على لسان أحد الشعراء في وصف جيرانه من بخل و جفاء و غلّ:
وجارٍ في حُقوقِ الحَيِّ جارا../. شَكا مِنه التَطَفُّلُ واسْتجارا
يُقِضُّ مَضاجِعي ليلاً ويُدْمي /..مَشاعرَ أسرَتي كَمَداً نَهارا
تَفُوحُ ثيابُ ملبسه غُروراً .. / .وينضَحُ وجهُهُ حِقْداً وعَارا
يهيمُ بكلِّ مُعْتَلِّ السَّجايا .. / .ويصطَحِبُ الدَّناءةَ أينَ سَارا