
كتب: نوفل سلامة
كل الحديث اليوم منصب حول المسألة المالية الحرجة التي تنذر بـ إفلاس الدولة
والصعوبات التي تكبل القائمين عليها نحو العبور إلى وضعية أحسن .. واليوم الهاجس الكبير منصب حول الطريق الممكن أن نسلكها لتخطي المصاعب المالية التي ترهق المالية العمومية لتبين طريق العبور نحو أفق أحسن لبناء الدولة من جديد بإكراهات واحراجات و صعوبات أقل.
واليوم المسألة المالية مطروحة بإلحاح كبير وجدية أكبر بعد أن دقت صفارات الانذار بقوة وبعد أن ازدادت المخاطر وتعمقت أكثر وتواصلت بعد حراك 25 جويلية المحطة التي شكلت المنعرج السياسي الخطير والأمل الذي تعلق به جانب كبير من الشعب وكل من ساند هذه الخطوة لإنقاذ البلاد و تحسين الأوضاع التي تعفنت من دون أن نلمس تحسنا أو تغيرا أو بوادر انفراج بعد أن ناهزت المدة ثلاثة أشهر على التدابير الاستثنائية ووهم الخطر الداهم الذي بفضله افتكت السلطة وهي فترة كافية للخروج من حالة الغموض والضبابية وتوضيح الرؤية على الأقل.
مناخ حيرة وقلق
واليوم مع هذا المناخ من الحيرة والقلق و في ظل هذا التعتيم الذي يتبعه من بيده اليوم مقاليد الحكم والسلطة لتوضيح معالم الطريق ، تبرز تخوفات جدية من اللجوء إلى المؤسسات المالية العالمية المانحة لإنقاذ المالية العمومية من الانهيار والإعلان الصريح عن إفلاس الدولة بعد أن كان الإفلاس قبل 25 جويلية حالة غير معلنة، ومع هذه الحيرة والخوف تطرح أسئلة أخرى جدية حول الموقف من مواصلة التعاون مع صندوق النقد الدولي ومواصلة الاستعانة بهذه المؤسسة المالية التي تحوم حولها عدة شكوك واتهامات في علاقة بالدور الذي يلعبه الصندوق لإخضاع الدول إلى الهيمنة المالية للمؤسسات العالمية المالية وتأثيرها على استقلال القرار السياسي وسيادة الدولة وما يعني ذلك من تواصل التبعية السياسية والاقتصادية وحتى الفكرية.
لكل هذه الهواجس المشروعة والبلاد تعيش أحرج وضع عرفته بعد الثورة، وفّقت مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات في تنظيم ندوة فكرية هامة تناولت الإجابة على سؤال كبير يقول هل قدرنا أن نكون دوما على أعتاب صندوق النقد الدولي ؟ وهل نحن مضطرون إلى اللجوء إلي هذه المؤسسة لإنقاذ البلاد ماليا ومن ثم الرضوخ إلى املاءاتها وشروطها ؟ وهل سدت كل الطرق حتى نجد أنفسنا مجبرين على ربط الصلة مع صندوق النقد الدولي ؟ أم أن هناك طريقا أخرى وحلولا ممكنة ؟ لتدارس كل هذه القضايا الحارقة كان اللقاء مع الأستاذ الجامعي المختص في قضايا الاقتصاد والخبير لدى الاتحاد العام التونسي للشغل الأستاذ عبد الجليل البدوي في ندوة يوم السبت 9 سبتمبر الجاري.
النهج النيوليبرالي
ينطلق الأستاذ عبد الجليل البدوي في الحديث عن الحضور المكثف لصندوق النقد الدولي في بلادنا بعد الثورة من فكرة جوهرية يراها مهمة لفهم حقيقة وتاريخ هذه المؤسسة المالية العالمية، هذه الفكرة تعتبر أن موضوع التداين واللجوء إلى المؤسسات المالية العالمية لتوفير السيولة اللازمة في فترة الأزمات التي تمر بها الحكومات والدول هو موضوع صراعات فكرية وموضوع مدارس فكرية مختلفة من حيث الأفكار والمنطلقات والخيارات الايديولوجية وليس قضية معارف وقوانين مطلقة ومن المؤسف أن الفكر الاقتصادي وتنوع مدارسه وتاريخ الأفكار الاقتصادية فيه لم تعد تدرس ليتحول الخطاب المهيمن إلى خطاب يقدم المسألة الاقتصادية وكأنها علم وحقائق مطلقة، والحال أنها على الخلاف من ذلك خيارات ممكنة وبدائل مختلفة وهذا الصراع الفكري سوف يتواصل ويدوم ما دام المجتمع محافظا على طبقاته المختلفة بمصالحها المتضاربة ليبقى دوما الاقتصاد موضوع انتماء طبقي.
صندوق النقد الدولي هو مؤسسة مالية تنتمي إلى الاقتصاد النيوليبرالي النظرية الاقتصادية المهيمنة اليوم على أغلب اقتصاديات العالم وهو تمش برز خاصة بعد الأزمة المالية العالمية في ثمانينات القرن الماضي على أنقاض التجارب الوطنية الشمولية الفاشلة ما فسح المجال إلى تكريس هذا الفكر الاقتصادي الذي كان وسطا بين الفكر الماركسي والفكر الليبرالي والذي يقوم على فكرة أن السوق وحده وأن المنطق الفردي وحده هو محرك التنمية وهو فكر يدعو إلى تجاوز المنطق القديم الذي يرى أنه من الضروري في حالة الأزمات أن يكون للدولة تدخلا مؤثرا لتعديل المخاطر…
بعد هذه المقدمة النظرية و المنهجية والتي ركزت على روح العصر التي سمحت بظهور الفكر النيوليبرالي ، يواصل المحاضر الحديث عن النتائج التي أفرزها تطبيق هذا النهج الاقتصادي الجديد في تحقيق التنمية التي تنشدها الدول وأهمها أنه يقوم على فكرة المصلحة الفردية المطلقة وعلى أن كل نشاط يجب أن يخدم مصلحة الفرد وتتفرع عن هذه الفكرة فكرة علوية القطاع الخاص وفتح المجال بصفة مطلقة له والتعويل عليه لتحقيق الرفاهة والتنمية واعتبار القطاع الخاص هو الوحيد القادر على تحقيق التنمية وتعديل النشاط الاقتصادي واحترام مبدأ حياد الدولة في سياساتها وتخليها عن سن قوانين تتدخل في السوق.
تقزيم الدولة وتفكيكها
يعتبر المحاضر أن هذه المبادئ التي تقوم عليها النيوليبرالية قد انتجت في النهاية مخاطر كثيرة أبرزها تقزيم دور الدولة وتحجيم تدخلها وإضعاف نجاعتها في المجال الاجتماعي وفي التقليل من المخاطر الاجتماعية وفي تعديل السوق وهذا ما تم ملاحظته خلال عشريات كثيرة حيث تراجع تدخل الدولة بصفة واضحة منذ التسعينات من خلال تراجع حجم النفقات مقارنة بحجم الدخل الوطني الخام بما يعني أن الاختيارات الاقتصادية قد ركزت على التقليص في حجم تدخل الدولة ونتيجة لانحصار هذا التدخل تراجعت كل المنظومات الاجتماعية الأخرى من صحة وتعليم ونقل وتراجع دور الدولة التعديلي والتحكم في الأسعار والتحكم في العجز التجاري…
النتيجة الثانية بعد تقزيم دور الدولة هو تفكيكها من خلال تصارع مصادر القرار الذي أدى الى شلل كبير عبر ما يسمى باستقلالية البنك المركزي الذي أفقد وحدة القرار بين قرار السياسة النقدية وقرار السياسة العمومية، صراع بين البنك المركزي ووزراء المالية أدى إلى ضرب السيادة الوطنية نتيجته أن الدولة لم تعد في خدمة المصلحة العامة.
إن موقف صندوق النقد الدولي من أزمة المالية العمومية يقوم على معالجة تركز على منهجية واضحة وهي الاهتمام بالنفقات أكثر من اهتمامها بالموارد بما يعني تقييد الدولة وتكبيلها بسياسة في معالجة العجز بين النفقات والمداخيل على حساب قضايا حساسة تؤثر بقوة على الوضع الاجتماعي للشعب والمقصود بنفقات الدولة أساسا منظومة الدعم وكتلة الأجور والمؤسسات العمومية التي تعرف صعوبات مالية.
منظومة الدعم
منظومة الدعم وضعت في بداية الاستقلال لتمكين الطبقات الضعيفة وطبقة الأجراء والطبقة الفقيرة والمتوسطة من مجابهة نفقات الحياة الخاصة نتيجة ضعف المقدرة الشرائية، وعدم قدرة الأجور والرواتب على مجابهة الحاجيات الأساسية فكان تدخل الدولة للتعويض عن النقص في الموارد والمداخيل العائلية وهي سياسة قائمة على منوال تنمية واختيارات تنموية وضعت أساسا على فكرة تدخل الدولة في الحياة الاجتماعية وقرار إلغاء هذا الدعم أو التراجع عنه من دون تغيير منوال التنمية سوف لن يحل المشكلة المالية ولن يحسن من حالة المديونية العمومية ومن الخطأ القطع مع منظومة الدعم من دون التفكير في وضع منوال تنمية جديد يتضمن إجراءات تعوض الدعم، فعملية الانتقال من نمط تنموي إلى آخر هي عملية مهمة قبل أخذ القرار في إلغاء منظومة الدعم ودون ذلك هو حدوث اخلالات اجتماعية كبرى.
كتلة الأجور هي بمثابة حصان طروادة الذي دوما ما يستعمله صندوق الدولي لقرض شروطه لدعم الحكومة التونسية حيث يعتبر الصندوق أن كتلة الأجور في تونس هي من الأعلى على المستوى العالمي وهي ترهق الميزانية وما يطالب به الصندوق هو التوقف عن الانتدابات في الوظيفة العمومية والتوقف عن الزيادة في الأجور وهذا موضوع دقيق وفيه مغالطات نتيجة اختيارات سياسية واقتصادية تراهن على البعد الاستهلاكي أكثر من البعد الاستثماري حيث أن الزيادة في الأجور لم تفد في الزيادة في المقدرة الشرائية ومن ثم الزيادة في الاستهلاك وتحسين الوضع العائلي وهنا يأتي الحديث مرة أخرى على ضرورة تغيير منوال التنمية الحالي فالقضية ليست قضية كتلة أجور مرتفعة وإنما هي قضية خيارات اقتصادية.
أزمة المؤسسات العمومية
أزمة المؤسسات العمومية التي تعيش أزمات مالية أو صعوبات جعلتها تتحول إلى عبئ كبير على الدولة في تمويلها هو بدوره يكلف الميزانية نفقات كبيرة كان من الأولى توجيهها إلى مجالات أخرى . حول هذا الموضوع يعتبر المحاضر أن الحديث عن الصعوبات المالية للمؤسسة العمومية يدعونا إلى التذكير بالدور الذي قامت به المؤسسات العمومية في تحقيق التنمية وكيف كانت هي قاطرة التنمية في غياب دور القطاع الخاص وكيف كانت قاطرة للاقتصاد ومساهمتها في تمويل خزينة الدولة وهذه الحقيقة تطرح أسئلة كثيرة حول أسباب هذه الأزمة المالية التي تعرفها جل مؤسساتنا العمومية التي تزامنت مع تراجع دور الدولة الاجتماعي وخاصة مع التخلي عن سن القوانين التي تحدد السياسات القطاعية ( الانشطة ، الاهداف و المزايا ) وكيف تحولت اليوم إلى عبء ثقيل على الدولة وإلى مخزون يحتضر ينتظر لحظة البيع لسد عجز الدولة . والسؤال هل علينا أن نستمع إلى صندوق النقد الدولي عندما يشترط التفويت في المؤسسات العمومية لتخفيف العبء المالي الذي تسببه عجزها.
والهاجس اليوم إزاء هذا الوضع الحرج للمالية العمومية وإزاء تزايد العجز المالي وإزاء حاجة الدولة إلى تعبئة مواردها والبحث عن موارد جديدة لتغطية العجز هل هناك من مخرج غير الذهاب إلى صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية العالمية المانحة ؟ وما هي الحلول الممكنة الأخرى لمعالجة أزمة المالية العمومية غير الاقتراض الخارجي؟
4 احتمالات
ينهي الأستاذ عبد الجليل البدوي هذه المحاضرة التي ركزت على المنظومة الفكرية لنظرية الاقتصاد النيوليبرالي التي ينتمي إليها صندوق النقد الدولي وعلى توجهاته التي توصف بالخطيرة باعتبار أن الحل الوحيد لتفادي الذهاب إلى الصندوق و الخضوع إلى إملاءاته وشروطه يكمن في اتباع اجراءات استثنائية قصوى وموجعة لمواجهة نقص موارد الدولة .. إن الحل اليوم ازاء المتاعب المالية لا تخرج عن احتمالات أربع : إما مواصلة التداين الخارجي وما يعنيه من إرتهان البلاد إلى الخارج وإما الحصول على مساعدات من دول صديقة وعندها تتحول الدولة إلى دولة متسولة وإما طباعة أوراق مالية جديدة لتلبية نفقات الدولة وما يطرحه هذا الحل من انعكاسات سلبية على قيمة العملة المحلية وإما اتباع سياسة التقشف من خلال التخلي عن الكثير من الموارد الموردة غير الضرورية والتقليل من نفقات الدولة والتخلي عن الكثير من الامتيازات…