راهب الأدب التونسي و العربي الأب ” جون فونتان ” في ذمة الله : ودعت الغرب لأني اقتنعت أن السحر و الحقيقة في مكان آخر

كتب: نوفل سلامة
انتقل إلى جوار ربه بعد صراع مع المرض اليوم الأحد 2 ماي الجاري الأب اليسوعي ” جون فونتان ” الملقب براهب الأدب التونسي والعربي عن سن تناهز 85 سنة قضى منها نصفها بين ربوعنا وعلى أرضنا الطيبة باحثا ودارسا للفكر والأدب والثقافة التونسية والعربية .
والأب جون فونتان لمن لا يعرفه هو راهب يسوعي فرنسي من مواليد سنة 1936 قضى طفولته الأولى ومرحلة من شبابه في بلدته الصغيرة قرب الحدود البلجيكية قبل أن يودعها نهائيا في سن مبكرة بعد أن قرر الالتحاق بجماعة الآباء البيض المسيحيين التي أوصلته إلى تونس سنة نيل استقلالها من المحتل الفرنسي . و في تونس التي قدم إليها في خمسينات القرن الماضي شعر الراهب الصغير أنه ودع الغرب إلى الأبد ليرتمي في أحضان بيئة جديدة مختلفة عن بيئته التي ولد وتربى فيها وحضارة فرضت عليه الانبهار بالشرق وسحره الذي يستمده أحيانا من أمواته أكثر مما يستمده من أحيائه . وعن هذه الحاضنة الثقافية الجديدة يقول الأب جون فونتان ” لقد خطف مني سحر الشرق كل حياتي وجزءا كبيرا من ماضيي وجعلني أتحدث باستمرار عن لقاءاتي الكثيرة مع اشهر الفنانين وأشهر الزعماء السياسيين وأدباء العرب.
يعتبر الأب جون فونتان أن تجربته في كلية الآداب بتونس التي التحق بها بعد أن كان له مرور بمعهد الصادقية قد مثلت المنعرج الحاسم في حياته لأن هذا الراهب المنتمي إلى حضارة الغرب والقادم من ثقافة تتباهي بامتلاكها ناصية العلم والمتعالية بإدعائها الانفراد بالحقيقة ، قد اكتشف في كلية الآداب عالما آخر وسحرا آخر يقول عنه بأنه يمتاز بالانسجام و هو متكون من مسلمين مؤمنين . وفي أروقة كلية الآداب ومكتبتها التي قضى فيها ما يناهز 45 عاما من عمره متنقلا بين الدراسة والتعلم والبحث والتأليف أحتل الاب جون فونتان مكانة و تقديرا بين أدباء تونس والعرب عموما .
أهم ما يميز الراحل ولعه باللغة العربية واهتمامه المفرط بالفكر والثقافة وخاصة الأدب ما جعله مختصا باقتدار في الأدب التونسي والعربي مكنه من شهرة في الأوساط الأدبية العربية التي شهدت له بعمق بحوثه وإتقانه في تناول القضايا التي كانت محل جدل بين الأدباء والمفكرين . من أهم مؤلفاته أطروحة دكتوراه عن ” الموت والانبعاث في أدب توفيق الحكيم ” وكتابه ” رمزية الحمار عند الحكيم ” وفهرس تاريخي للمؤلفات التونسية و ” كلامات مهاجرة ” وغيرها
لم يقتصر الجهد الفكري الذي بذله الأب جون فونتان على الاهتمام بقضايا الأدب وبكل ما يكتبه الأدباء من قضايا من أمثال محمود تيمور وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وغيرهم من عمالقة الأدب العربي وإنما تعدى ذلك إلى الاهتمام بالبحث في الموروث الحضاري والإنساني لتونس من خلال تتبع كل الأطوار التاريخية التي مرت بها وفي هذا المجال نذكر مؤلفه الهام الذي يعتز به والذي يمثل دراسة تأليفية مختصرة حول الأدب التونسي منذ القرن السادس قبل الميلاد حتى حدث الثورة وهو عمل مهم نحسب أنه لا أحد قد سبقه إليه من قبل.
ويعد كتابه الذي نشره بعد الثورة عن الظاهرة السلفية في تونس من أهم الكتب التي ألفها الأب جون فونتان لقيمته الفكرية والتوثيقية حيث قدم شهادته عن تونس بعد 14 جانفي 2011 في فترة حكم الترويكا وما حصل خلالها من أحداث مؤثرة كان التيار السلفي بارزا فيها بقوة وقام بعملية موفقة في تجميع وتبويب للأحداث حاول من خلالها مواكبة اللحظة التاريخية وتوثيقها ليستخلص منها الاب فونتان أن الظاهرة الاسلامية تطرح أسئلة معرفية حول الحداثة والأصالة وإشكالية الخصوصية والكونية وسؤال الماضي والحاضر معتبرا أن صعود الظاهرة الإسلامية قد أبرزت عمق أزمة الهوية التي تعيشها تونس وأن الفشل ليس فشل الدولة الحديثة بقدر ما كان فشل الذين لم يستطيعوا أن يسيروها.
وتبقى أهم المواقف الخالدة التي تحسب لهذا الراهب اليسوعي والتي نحتاج أن نقف عندها طويلا ما قاله ردا على سؤال حول فكرة تصادم الأديان من كون ” الأديان لم يعد لها اليوم في هذا العالم دور كبير. مضيفا : لما ذهبت إلى لبنان أثناء الحرب الأهلية لاحظت أن أغلبية الأغنياء كانوا من المسيحيين وأن أغلبية الفقراء كانوا من المسلمين . لقد كانت حربا اجتماعية استغلت السلطة الميول الدينية للشعب اللبناني لتصويرها وكأنها حربا دينية .. وفيما يتعلق بأحداث 11 سبتمبر يمكن لنا أن نتبع نفس المنهج لتحليل تلك الأحداث اعتبارا من موقف الذين ارتكبوا التفجيرات الذي هو رد فعل على سياسة الولايات المتحدة إزاء بلدان العالم الثالث ومن مصلحة الولايات المتحدة ألا تعترف بهذه الاسباب الحقيقية وأن تجد تعلة للضغط على الاقتصاد العالمي . نتيجة لكل تلك الاعتبارات فإنني لا أؤمن بالصدام بين الأديان لأن الصدام الحقيقي هو صدام مصالح وهي مصالح اقتصادية بدرجة أولى وسياسية بدرجة ثانية والأمثلة على ذلك عديدة في العالم “
حاولنا في هذه الأسطر أن نأتي على عجل على سيرة ومنجز الراهب التونسي الفرنسي الذي غادر بلده فرنسا في سن مبكرة ليستقر بيننا في رحلة عمر حولته إلى شخص معجب بهذه الأرض ومحب لخصوصيتها التي جعلته يعتبر نفسه معني بكل ما يحصل فيها فكتب عنها الأدب والفكر والتاريخ وكان شاهدا على فترة من أحلك فتراتها فكانت شهادته عن الثورة التونسية الذي شكل مؤلفه عنها من أهم الكتب التي أثارت جدلا فكريا مهما ولا يزال.
رحم الله الأب ” جون فونتان” راهب الفكر والأدب التونسي والعربي.