
كتب: عيسى البكوش
منذ ما يقرب على أربعة عشر عاما وبالتحديد في الثامن عشر من شهر جوان من سنة 2007 كنت قد كتبت فصلا في جريدة الصريح في ركن ” شذرات” اخترت له من العناوين أشنعها وأقساها: «رسالة النكران» جاء في مفتتحه:
“كثيرة هي الرسائل في المرجعيّة الفكرية والأدبية للعرب فمن رسالة عبد الله بن زيد القيرواني في الفقه المالكي، والرسالة المفصّلة لأحوال المتعلّمين لأبي الحسن علي القابسي وهما ابنا خالتي المؤدّب الأرياني محرز ابن خلف، إلى رسالة الشيخ علي النوري الصفاقسي في تحريم التدخين، مرورا برسائل الشيخ سليمان الحيلاتي وعددها ثمانية في ذكر علماء جربة. كلّها رسائل أثرت المدوّنة الفقهيّة والتراثيّة في ديار الغرب الإسلامي.
أمّا في الشرق فثمّة بالطبع رسائل إخوان الصفاء وعددها 52 وثمّة بالخصوص الرسالة التي أضحت أثرا أدبيّا كونيّا – ناهيك أنّ الإيطالي ” دانتي” نسج على منوالها والتي صاغها شاعر المعرّة أبو العلاء والموسومة بالغفران.
فهل يجود زمننا هذا بمن “يعرّي ” أو حتّى يرفع الحجاب عن العيب الذي استفحل فينا حتى كاد يصبح سمتنا الوراثيّة أو بلغة أهل الذكر أحد ملامح شيفرتنا الجينيّة، فيحرّر لنا رسالة في النكران تكون لنا ولغيرنا شاهدا على فنّ حذقناه وصرنا من البارعين فيه.
ثمّ استشهدت فيما استشهدت بهذا النبأ: “هذا مسؤول قومي سابق ومؤسّس لأعرق المهرجانات يتحسّر عن عدم توجيه مجرّد دعوة لحضور تلك التظاهرة التي تنتظم على مقربة من مقر إقامته بتلك المدينة الأثريّة»..
واليوم يمكن أن أفصح عن أمر هذا المتنكّر له وهو المنعّم الشاذلي القليبي الذي غادرنا في مثل هذا الوقت من السنة الفارطة.
أمّا الذي دعاني لإعادة الكرّة فهو في نظري أدهى وأمرّ…
لقد غيّب الموت منذ أسبوعين وبالتحديد يوم 03 ماي الماضي بباريس “وما تدري نفس بأي أرض تموت” (سورة لقمان) أحد روّاد الصحافة لا في تونس فحسب ولا في إفريقيا مثلما قد يوحي به اسم مجلّته التي أنشأها في بلده منذ ستين عاما بمعيّة المنعّم محمد بن إسماعيل Jeune Afrique بل في العالم.
لقد نعاه أصحاب الأقلام الفذّة في مجال الصحافة الدولية وكذا فعل رئيس دولة فرنسا الذي اختار
ـ وهل حقّا كان اختيارا أم اضطرارا ـ أن يستقرّ بها منذ سنة 1964 إثر ما حفّ به من مخاطر عندما خرج عن صفّ “المنسجمين” في بلدنا.
البشير بن يحمد لمن لم يدركه هو أحد بناة دولة الاستقلال، ولقد تحمّل ـ بعد أن شدّ إلى جانب صديقه محمد المصمودي إزر الزعيم الحبيب بورقيبة إبّان المفاوضات حول الاستقلال في العاصمة الفرنسية ـ وهو في سنّ الثمانية والعشرين من عمره أمانة أوّل وزارة للإعلام في تونس في أوّل حكومة للرئيس المظفّر سنة 1956.
ثمّ ارتأى بعد ذلك بقليل أن يميل إلى صاحبة الجلالة فولّى وجهه عن وهج الحكم نحو ما كان يعتقد أنّه أفيد للحكّام وهو السلطة المضادّة أو بالأحرى السلطة المعاضدة حقّا لأنّه مثلما جاء في الأثر فإنّ الرّاعي يكون ممنونا “لمن يُهدي له عيوبه »….ولكن تلك مشيئة التاريخ….
لقد تعرّفت على الرجل أوّل مرّة وأنا طالب في باريس يوم 21 أفريل من سنة 1966 عندما حضرت في رحاب مأوى الحبيب ثامر 115 شارع سان ميشال ـ مقر جمعية طلبة شمال إفريقيا المسلمين ـ وكنت منتميا إليها ـ الندوة التي نظّمها مكتبها حول ” الحزب الواحد في بلدان العالم الثالث”. وقد كان سي البشير أبرز المتدخّلين يومئذ بل إنّي أجزم أنّ مداخلته العصماء لم تفقد بعد مرور 55 عاما نظارتها.
ولقد افتتحها مازحا: ” إنّنا نعلم جميعا أنّ نقاشنا هذا المساء لا يمكن البتّة أن يتمّ في أحد من بلداننا الذين يرزحون تحت نظام الحزب الواحد”.
ثمّ خلُص في الختام إلى تقديم رؤية كان يمكن لو اعتمدت في قارّتنا على الأقل أن يقيها كلّ ويلات النصف الثاني من القرن الماضي وهي ترتكز بالأساس على الاقتصار على حزبين أحدهما في الحكم والآخر في المعارضة وبالطبع كلاهما يتذوّق الأمرين.
ولكن ما بأيدينا ينسج تاريخنا السياسي، إذ أنّ أفيون السياسيين عندنا يجعل ” أولياء أمورنا” لا يضيقون ذرعا بالتمسمر فوق الكراسي حتى يفعل بهم الصدأ ما هو فاعل بالحديد على الرغم من صلابته.
ثمّ توطّدت صلاتي بسي البشير من خلال ابنته المدلّلة Jeune Afrique.
لقد فسح أمامي المجال للإدلاء بدلوي في عديد من القضايا الوطنية والدولية في صفحة كان يخصّصها لأصحاب الرأي. ولقد انطلقت مساهماتي المكتوبة منذ شهر أفريل من عام 2000 غداة وفاة الرئيس الحبيب بورقيبة الذي خصّص سي البشير لهذا الحدث الجلل كرّاسا يوم 18 أفريل جمع فيه شهادات للبعض ممّن عايش باني الدولة الحديثة.
ولقد عنونت رثائي: السنديانة التي لا تموت Le chêne immortel. ومنذ ذلك التاريخ وسي البشير وهو من هو أي الرجل الشديد مع نفسه قبل أن يكون مع غيره، كان صعب المراس يتوق إلى الأجود نصّا وروحا، يباشر ـ رحمه الله ـ قراءة كلّ ما كنت أرسله إليه إلا مرّة أو مرّتين لأسباب تفهّمتها وطويت صفحتها بعد أن كظم غيظه، ولقد أذن منذ سنة في مثل هذا الشهر من السنة الفارطة وهو لم يعد مسؤولا مباشرا للمجلة حسب ما أبلغني رئيس التحرير بنشر مقال لي تحت عنوان: Le temps des soupirs
والآن ما العمل تجاه هذا الصمت المزعزع، عند فراق رجل ملأ الدنيا بعدد هائل من اللآلئ المختارة من لجّ القول البديع تحت مسمّى: Ce que je crois .
إنّي أظنّ غير آثم أنّه في مقدور تونس الولاّدة لمثل هؤلاء الرجال الأفذاذ أداء التحيّة لروح أحد أساطين القلم -الذي أقسم به الرحمان- وذلك بتنظيم أربعينية للفقيد في مدينة الثقافة الشاذلي القليبي* ولم لا تسمية قاعة الأخبار بساحة الاستقلال باسم أوّل وزير في هذا المجال. وقد يتمّ ذلك بحضور زوجته التي تربطها وشائج عديدة مع تونس صحبة أبنائها زياد ومروان وأمير.
تغمّد الله فقيدنا بواسع رحمته وأسكنه فراديس جنانه وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
▪ ويتم بهذه المناسبة تقديم شهادات من طرف الذين صاحبوا الفقيد في مسيرته الصحفية وأذكر من بينهم الأصدقاء عبد العزيز الدهماني ورضا الكافي وعبد العزيز الباروحي وسمير الغربي والصديقتين فوزية الزواري وسهير بلحسن التي كانت قد فتحت لاتحاد الطلبة أيّام محنتنا بين سنتي 1969 و1971 أعمدة المجلة عندما ادلهمّت السحب فوقنا وتمّت محاصرتنا من طرف الإعلام الرسمي.