
كتب: محمد نجيب عبد الكافي
لمّحت في حديث سابق مشيرا باختصار، إلى التمييز «العنصري « السائد في سياسة ونظام الصهيونيين على أرض فلسطين، تمييز وتهميش، وحتى احتقار وإهانة ـ معنوية على الأقل ـ تجاه بني جلدتهم اليهود الشرقيين. أرادت الصُّدف بهذا الشأن، أن أقرأ مقالا كتبته السيدة سامية القصاب الشرفي، نشر على صحيفة « ليدرز « على ما أذكر، عن كتاب ألفته تونسية تدين بدين موسى عليه السلام، تتّهم فيه السلطات الصهيونية، بما سبق لي أن عِبْته، في سابق ما كتبت، منتقدا تصرفاتهم بإيجاز واختصار.
بادرت بشراء الكتاب، والتهمته في وقت أقصر من قصير، لأنه وإن كبر محتواه، فهو صغير في حجمه، فاستفدت، وعلمت، وأنعمت، وأعجبت، بما بدا من المؤلفة صوفي بسيس، من حقائق، وصراحة، ورصانة، واتهام. لست في حاجة للتعريف بالكاتبة، فهي مؤرّخة من أبرز مؤرّخينا، أستطيع القول بأنها تخصّصت، فاشتهرت بوقوفها، على الضفة الجنوبية من بحرنا المتوسط تواجه عنجهيّة، وتطاول، ومباهاة، وادّعاء أهل « الضفة الشمالية: أي الوقوف أمام أوروبا، تقول لها كفاك تعدّيا على الحقيقة، وهات ما تدَّعينه من إنصاف واحترام حقوق.
تسير السيدة بسيس في كتيّبها هذا، على منوالها الذي عُرِفت به، فهو رسالة لكاتبة أخرى، يهودية أيضا، من ألمانيا، اسمها حنّا هارندت، هاجرت إلى الولايات المتحدة وماتت تاركة عديد المؤلفات في السياسة وفلسفتها. عُرف عنها دفاعها عن مبدأ التعدّديّة في المجال السياسي، كأنها ترى، أنه بفضل التعدّدية، تنشأ ظاهرة أو قوّة الحرية والمساواة السياسيّتين بين الأشخاص، وأهمية منظور إدماج الآخر، عندما يتعلق الأمر باتفاقات سياسية، أو مواثيق وقوانين، يجب أن يعمل لها وفيها على مستويات عمليّة، أشخاص مناسبون مستعدّون. لكنها بدت، من ناحية أخرى، معتنقة مؤمنة، سياسة رفض اليهود الشرقيّين وإجلائهم عن المسرح التاريخي، الذي رسمت أكبر مظاهره وأزمنته. هذا يعني، لمن يريد الفهم، إبعادهم عن لبّ ومركز النشاط، وهو النظام أي السياسة والسلطة. إن أكثر ما شدّ انتباهي وإعجابي بما جاء في هذه « الرّسالة « كما أسمت السيدة بسّيس مؤلَّفَها، هو أنها لم تتكلم كيهودية فحسب، بل وقبل ذلك، كتونسية، كشرقية، كمواطنة من الضفة الجنوبية، التي لا تقل علما، ولا معرفة، ولا أصالة، ولا كفاحا، عن مواطني الضفة الشمالية، الناكرين دوما لمقدرات وإمكانيات غيرهم خاصة إذا كانوا من الضفة الأخرى أي « جنوبيين شرقيين »…
هذا يعني لدى «الأوربيّة التي لا علاج لها من أوروبيتها « التي لا تكف عن التذكير بها، جاهلة أو متجاهلة، اليهودية العربية، جهلا مطبقا «مبرمجا». فتقول لها الكاتبة بسيس: إنك، أنت يا سيدتي، « شديدة الأوربية « لم تسمعي قط عنّا، وما هو أدهى تُنكرين وجودنا.»
بمثل هذا وغيره كثير، صريح، صادق، موثق، واجهت هذه المؤرخة المخلصة التونسية اليهودية الشرقية، ابنة الضفة الجنوبية، فكالت حقائق وبراهين لأختها في الدين، لا في الحقائق ومفاهيمها، تُعرّي بها تصرّفات، ومواقف، وأخطاء أو أكاذيب، وجهل وقلة معرفة القادمين من أوروبا غازين بعنجهية وغطرسة وتكبّر، أرض فلسطين ومن وما عليها، فسيطروا، ناكرين غيرهم ولو كانوا يهودا لمجرّد أنهم غير أوربيّين.
إن الكُتيِّب قيّم مفيد، جدير بالقراءة والتمعّن والتبصّر، لكنّ ذكري إياه، مرماه الأول هو تأكيده حقيقة أهملت طوال عقود الغزو والاحتلال الاستعماري. قلت حقيقة وهي في الواقع حقائق، أذكر هنا بعضها ممّا تبيّن وخطر لي، ولا أشك بأنّ غيري، خاصة ذوي الاختصاص، يرون ويجدون غيرها وأكثر منها. إن الحقيقة الأولى التي لا نزاع فيها ولا شك، هي طرح القضية الفلسطينية، وعرضها أمامنا وأمام العالم بأسره، فأخذت وفهمت وعوملت، كصراع ديني، بينما هي كفاح وطني ضد استعمار دخيل. يلي هذه الحقيقة الأساسية، تصديقنا ما تدّعيه أوربا، والغرب قاطبة، من إيمان بالمساواة، وحقوق الأنسان، والحريات، ومناهضة الاعتداء أيّا كان مصدره، والوقوف بجانب المُعتدى عليه. لكن كما نقول شعبيا « عليهم لا علينا « أي كل تلك الادعاءات، إن صحّت، لا تُتخذ إلا إذا كان في حاجة إليها من هو منهم وإليهم. حقيقة أخرى هي تصديقنا واحترامنا مؤسسات، في طليعتها جمعية الأمم المتحدة بمجلس أمنها وكل منظماتها، تقول إنها عالمية، إنسانية، مكرّس نشاطها لخدمة وفائدة المحرومين من الحريات بأشكالها وأنواعها وغاياتها، فنراها صامتة بلا حراك، عندما يتعلق الأمر بهذه القضية. فحتى قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وهي عديدة كثيرة، لم ينفذ منها ولا بند واحد، ولم يرتفع صوت واحد يطالب بذلك. لماذا؟ خشية بل خوفا من التعرّض لاتهام، أصبح سيفا مسلطا فوق رأس كل من تحدثه نفسه بانتقاد، أو مهاجمة، أيّ تصرف أو قول أو اعتداء يصدر عن الصهيونيين المعتدين، وهذا السيف اسمه معاداة السامية. أليس الفلسطينيون – والعرب جميعا – ساميين؟ فكيف يعتدي المرء على نفسه؟ وكيف يغض الغرب النظر، ومعه كل المدعين، عن مبادئ لا يحترمونها، أو يتناسونها، عندما يتعلق الأمر بنا وبقضايانا، رغم أننا ساميون؟ أم أن السامية طبقات ودرجات؟
كثير هو ما يُلاحظ ويقال بهذا الشأن، وقد حان الوقت أن نصحو، ويصحى جميع الواثقين فيما يدعيه الغربيون عموما، من مبادئ سامية فهي، إن صدقت، موقوف تطبيقها على من هم منهم وإليهم، أما غيرهم فذلك شأن آخر، وكلام غير ما يقولون. حقيقة هذه وواقع لا يخفى إلا عن الذي لا يريد أن يرى ويتبصّر. حقيقة تمارس، وواقع يلاحظ، بينما المدّعي بأنه ضحية، الشاكي الذي يتذرّع بالملاحقة والتعذيب، أصبح يمارس الملاحِقة والتعذيب والاغتيال والقتل، بينما نحن وأشباهنا الكثيرون، نرى السراب، سراب ما يهددنا به الغرب، فنحسبه ماء. متى يا ترى، سنعي ونفهم، أن المبادئ والقيم التي نؤمن بها ونتمناها ونسعى للحصول عليها وتطبيقها بيننا، هي لدى من نثق بهم، ونعجب بما يقولون ويفعلون، ما هي إلا وسائل لبلوغ أهداف وتحقيق مصالح؟ لذا، وفي انتظار تخلصنا من مركّب النقص مع الغرب، والإعجاب به، مع قبول كل ما يأتي به ويمارسه، وانتظار اتخاذ الحذر والشك، في كلّ ما يقوله لنا، فلا نصدّقه إلا بعد التأكد بالمعاينة والحس، من صدقه ما يقول، وانتظار معاملتنا إياه، بمسؤولينا وجماهيرنا، كما يعاملنا، طبقا وحسب المصالح والحاجات، ندّا لند، فعلا لا قولا، انتظار كل هذا، أختم بما وجهته صوفي أو صوفية بسيس لمخاطبتها وهي تقول: إن الآخر، رغم هذا، ليس سوى من هو بجانبنا أو أمامنا، إنه بداخلنا.»
مدريد في 27-5-2021.