نوفل سلامة يكتب: أحمد المستيري رجل التحرر من التبعية للمستعمر الفرنسي

كتب: نوفل سلامة
من يقول المرحوم أحمد المستيري فإنه يقول واحدا من بناة الدولة التونسية الحديثة وأحد الآباء المؤسسين للدولة الوطنية..ومن يقول أحمد المستيري فإنه يقول أحد رجالات الدولة البورقيبية من الذين ساهموا بقدر كبير في تحديث الإدارة التونسية وتعصير خدماتها وتركيز استقلالها عن المستعمر الفرنسي..
…من يقول أحمد المستيري فإنه يقول آخر العنقود تقريبا لجيل العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي من الذين تشكل معهم الكفاح الوطني ضد الاحتلال الفرنسي حيث لم يبق أحد تقريبا من هذا الجيل المناضل الذي قامت عليه الذاكرة الوطنية المعاصرة وبهم كتبت سردية الحركة الوطنية وقصة بناء الدولة التونسية الحديثة… ومن يقول أحمد المستيري فإنه يقول واحدا من الدستوريين المؤمنين بضرورة إرساء ديمقراطية حقيقية داخل الحزب الحاكم قبل تكريسها خارجه وأحد المجموعة من الجيل الديمقراطي في الحركة الدستورية الذي شكل تيارا ديمقراطيا داخل الحزب وأحد الذين اختلفوا مع الزعيم الحبيب بورقيبة حول مسألة الحريات والموقف من المعارضة ومسألة التداول السلمي على السلطة ومسألة بناء تونس حرة ديمقراطية تعددية وهي نواة ديمقراطية تم قمعها مبكرا وإخماد صوتها وتهميشها وهذا ملف يحتاج أن نشتغل عليه ونعيد فتحه حفظا للذاكرة الوطنية و من أجل كتابة تاريخ الحركة الديمقراطية الأولى التي ولدت داخل الحزب الدستوري ومن رحم الحركة الوطنية وهي القضية التي شكلت أحد نقاط الخلاف مع الزعيم بورقيبة حيث اضطر أحمد المستيري وغيره من الرموز المؤمنة بالديمقراطية إلى مغادرة الحزب ومعارضة الرئيس بورقيبة وتشكيل تيار معارض انشق عن الزعيم سوف يكون له شأن كبير في قادم السنين وهذا فعلا ما حصل حيث استطاعت الحركة الديمقراطية بعد تأسيس حركة الديمقراطيين الاشتراكيين بقيادة المرحوم أحمد المستيري في بداية ثمانينات القرن الماضي من الفوز في انتخابات سنة 1981 من خلال القائمات الخضراء وهي الحدث الذي شكل بداية الانحدار الذي عرفه الحزب الاشتراكي الدستوري وبداية التراجع في شعبية بورقيبة وبداية الانذار الذي زعزع القيادة السياسية التي بادرت بنصح الزعيم بضرورة للانفتاح على المعارضة السياسية.
أحمد المستيري المناضل الدستوري الذي رافق الزعيم الحبيب بورقيبة في بداية النضال الوطني وتأسيس الدولة الوطنية وتربى على أفكار وأدبيات الحركة الوطنية والذي آمن بتونس جديدة ديمقراطية تعددية اجتماعية .. أحمد المستيري الذي تجرأ مع زعماء آخرين على التمرد على الزعيم بورقيبة لا يعرف عنه تقريبا إلا هذه الخصال وهذا المشوار السياسي .. ولكن أحد المستيري قبل ذلك هو من قاد عملية تونسة القضاء التونسي لما أشرف على وزارة العدل في أواخر سنة 1958 و قيادة الإصلاح في مجال المؤسسات والهياكل والتشريع لتركيز النظام القضائي الجديد .. وأحمد المستيري هو رجل الإصلاح الإداري في قطاع المالية والتجارة والاقتصاد لما أشرف على وزارة المالية حيث كانت له رغبة جامحة في استكمال استقلال البلاد مما علق بها من رواسب الاستعمار ومن محاولات المستعمر الفرنسي تأبيد بقائه في البلاد ولو بأشكال مختلفة فكانت المعركة التي خاضها المستيري لتثبيت الاستقلال بعد فترة الحكم الذاتي إذ بات من الضروري كما يقول المرحوم فتح واجهة أخرى لتونسة هذه الميادين وخاصة ميدان التشريع والإدارة وقد كانت معركة مصيرية في تصفية مخلفات العهد الاستعماري الذي وجد في بداية الاستقلال من دافع عنه وعمل على إدامة حضوره بيننا فكان أحمد المستيري من الرموز الوطنية التي خاضت معركة أخرى لتحرير البلاد من رواسب الاستعمار إذ تأكدت كما يقول المرحوم مراجعة علاقتنا مع فرنسا من أساسها بعد أن اتضح أن المستعمر يعمل على إدامة تواجده ومواصلة نفوذه .
أحمد المستيري هو أيضا رجل التحرر من التبعية للمستعمر الفرنسي باتخاذه القرار التاريخي الذي جسّد حقيقة وفعلا الاستقلال في مسألة خطيرة تهم إنهاء العلاقة المالية مع السلطة الفرنسية وتحقيق الاستقلال من خلال فك الارتباط عن عملة المحتل
“الفرنك ” حيث حرصت فرنسا على الإبقاء على تبعية الدولة التونسية في مجال العملة للدولة الفرنسية إلا أن أحمد المستيري رفض أن يواصل الدينار التونسي بعد إنشائه أن يكون تابعا ” لمنطقة الفرنك ” وأن تحدد قيمته من خلال انخفاض أو ارتفاع العملة الفرنسية أو أن تواصل تونس النسج على منوال الحكومة الفرنسية كلما حدث تغير في قيمة الفرنك الفرنسي فكان القرار التاريخي الذي اتخذه المرحوم أحمد المستيري مراعاة للمصلحة الوطنية العليا فك الارتباط النهائي مع العملة الفرنسية وإنهاء العلاقة معها وتحرير الدينار التونسي من كل هيمنة أو خضوع للفرنك الفرنسي…
يقول أحمد المستيري في كتابه ” شهادة للتاريخ ” لقد قررت أن أخلص البلاد من تبعيتها لفرنسا اقتصاديا وماليا ومن القيود المجحفة المترتبة على هذه التبعية وعليه فقد امتنعت عن مسايرة السائد .. وقلت لمن عارضني: إنه لا شيء يفرض ويبرر تخفيض العملة الوطنية من الوجهة الفنية وأقنعت الباهي الأدغم وبورقيبة بهذه الحجة و وافق بورقيبة على قراري وألقى حينها خطابا في الاذاعة أكد فيه أنه لن يخفض من قيمة الدينار التونسي بعد أن خفضت فرنسا من قيمة الفرنك وهكذا خرجت تونس عمليا من منطقة الفرنك …” هذه لمحة موجزة عن رجل عاش مناضلا ومات مناضلا وهذه بعض من خصال رمز من رموز الحركة الوطنية والحركة الديمقراطية وأحد الآباء المؤسسين للدولة التونسية الحديثة التي أرادها حرة ، ديمقراطية واجتماعية .. رحم الله أحمد المستيري وكل الرجاء أن لا تنساه الذاكرة الوطنية…