نوفل سلامة يكتب: الديمقراطية التونسية اليوم على المحك؟

كتب: نوفل سلامة

اليوم التجربة الديمقراطية في تونس بعد حدث 25 جويلية وما تبعه من اتخاذ تدابير استثنائية تعيش أزمة وجود كبرى وتتعرض إلى هجمة شرسة في تحميلها الخيبات المتتالية التي عرفتها البلاد بعد الثورة، وهي اليوم على المحك وتطالها العديد من التساؤلات والاستفسارات وتوجه إليها الكثير من الانتقادات والاتهامات وهي وضعية لا تختص بها تونس دون غيرها من بلدان العالم التي تشهد هي الأخرى الكثير من المراجعات ووقفات تأمل في خصوص قدرة المنظومة الديمقراطية على إسعاد الشعوب وتلبية انتظاراتهم حيث السؤال الحارق اليوم هل نحن في حاجة إلى هذه الديمقراطية؟
وهل تنفعنا نحن شعوب الضفة الجنوبية هذه الديمقراطية التي ينسب لها الكثير من الناس ما حصل لنا من تراجعات وخيبات؟

لكل هذه الأسئلة وغيرها والتي نجد لها صدى في الشارع التونسي بعد تجربة متعثرة عرفتها البلاد بعد الثورة كان لبرنامج ” ميدي شو على موجات موزاييك في حصة يوم الجمعة 2 أكتوبر الجاري حديث فكري مهم مع الناشط السياسي والباحث في علم الاجتماع ماهر حنين والإعلامي سفيان بن فرحات و الناشطة في المجتمع المدني أحلام حشيشة نعرض في هذا المقال أهم ما جاء فيه…

أزمة الديمقراطية

في هذا اللقاء تم التأكيد على أن أزمة الديمقراطية ليست بالجديدة في العالم وهي مطروحة منذ فترة طويلة، و يزيد طرحها اليوم بأكثر حدة بعد فشل الكثير من الديمقراطيات الغربية في تحقيق طموحات الشعوب وخاصة بعد انتشار جائحة كورونا وما كشفته من حدود هذه الديمقراطية في استيعاب المخاطر والصعوبات التي أحدثها هذا الوباء ، فما تم رصده أن الأحداث الكبيرة التي تمثل منعرجا في حياة الشعوب عادة ما ترتب علاقة جديدة مع السلطة و مع المقدس ومع من يستحوذ على الهيمنة وبيده القوة و في تونس الديمقراطية هي قضية مطروحة في علاقة بالحرية وفي علاقة بمجتمع في طريق نحت شخصيته من جديد بعد سنوات طويلة من الحكم الفردي واحتكار السلطة وتغييب الفرد..

قضية الديمقراطية مطروحة اليوم بقوة في علاقة بتجربة عشر سنوات بعد الثورة


وبعد أن تم التخلص من منظومة الاستبداد والتفرد بالرأي ولكن ما حصل هو أن غياب التقاليد الديمقراطية في شكلها الليبرالي هو الذي جعل التجربة تتعثر و جعل المافيات تتسلل وتصبح هي الحاكمة واليوم نحن إزاء ما حصل في مفترق الطرق أكثر من أي وقت مضى حتى وصل الأمر إلى المطالبة بالتخلص من الدولة في الوقت الذي نحن في أمس الحاجة فيه إلى دولة قوية لذلك فإن قضية الديمقراطية مطروحة اليوم بقوة في علاقة بتجربة عشر سنوات بعد الثورة وكل المنجز التي تحقق ومطروحة بعد حدث 25 جويلية وما رافقه من مخاوف على ضياع حرية الرأي والتعبير المكسب الوحيد الذي تحقق…

تجربة على المحك

مظاهرات مناهضة للاجراءات الاستثنائية المعلنة من رئيس الجمهورية

إذا كان المقصود بالمحك هو التجربة والاختبار و المعايشة اليومية والممارسة التي تقوم على الخطأ والصواب فهذا محمود ومطلوب ذلك أن الديمقراطية كممارسة وإجراءات انتخابية وإرادة حرة وواعية هي كلها اليوم على المحك وحتى الديمقراطية من حيث هي قيمة من قيم الفكر الليبرالي الذي يفرض العيش المشترك ويعلم التسامح كقيمة تربي الفرد على القبول بالتعدد ورفض التعصب الديني والعرقي والقومي كقيمة من قيم التحديث والتنوير هي أيضا على المحك سواء في الدول العريقة في الديمقراطية أو في الدول التي استقلت حديثا وحتى على المستوى الاجتماعي…
 فإن الديمقراطية في علاقة بالسوق وهيمنة رأس المال وهيمنة الريع تعيش أزمة حادة وتونس ليست استثناء فيما يحصل في بلدان العالم من حيث أن ديمقراطيتها الوليدة التي انطلقت منذ 10 سنوات من خلال انتقال ديمقراطي ومسار ثوري تعرف تعثرا و مأزقا خطيرا ولكن مقارنة بما يحصل في المنطقة هي على المحك في مناخ يتسم بالسلم رغم ما حصل من عمليات ارهابية واغتيالات سياسية وتهديد لكن هو محك  تخضع له من دون تدخل من الجيش ومن دون حرب أهلية ولا سفك دماء.
المشكل الذي رافق مأزقها في تونس يكمن في النخبة الفكرية والسياسية التي لم توفق في تقديم الديمقراطية في معنى يفهمه الشارع التونسي مما نتج عنه أن جانبا كبيرا من الشعب أصبح يشك في جدوى الديمقراطية والكثير من الناس يتساءلون عن جدواها ويتهمونها بكونها لم تجلب لهم ما يفيدهم وعلا صوت يصرخ بأننا شعب لسنا أهلا بها وهو موقف نجد له صدى في الخطاب الشعبوي الكاره للديمقراطية.

إن الديمقراطية هي فضاء حكم للجميع تقوم على فكرة أن السلطة تنبع من الشعب وتعود إليه ولكن ليس بالمعنى الذي تقدمه الشعبوية التي تصورها على أنها اجتماع الجمهور لفض مشاكله .. نحتاج اليوم إلى التذكير بأن جوهر الديمقراطية والفكر الديمقراطي هو إعلاء قيمة الفرد ومعنى المواطن وهذا يعني أن القضية أكبر من مجرد التشهير بالفساد والتنديد بالفاسدين وإنما الذي حصل وجعل الديمقراطية تتراجع هو عزلة فكرية وسلوكية جعلت المؤسسات لا تعكس انتظارات الناس وجعل التمشي الديمقراطي لا يحمل معه الرفاه للشعوب.

أين المشروع الوطني الجامع؟

إغلاق البرلمان أمام النواب في اطار الاجراءات الاستثنائية

مشكل الديمقراطية في تونس يكمن في غياب المشروع الوطني الجامع الذي يلتف حوله الجميع على اختلافاتنا حيث انشغلنا في خوض معركة من يرسم المستقبل بمفرده وكل حزب أراد أن يبني المجتمع بمفرده ومن خلال مشروع يكون على خلاف مشروع الطرف الآخر .. ما حصل هو أننا بعد الثورة أردنا بناء نظام حكم ومجتمع مخالف للنظام الذي أقامه حزب التجمع ثم جاءت النهضة وفكرت في مشروع مجتمعي هو على النقيض من تصور الآخرين والآخرون كان لهم مشروع ضد النهضة وهكذا بقينا نتصارع فكان أن مل الناس من هذه الديمقراطية التي لم تجلب إلا الصراع والمعارك التي لا تنتهي.
لكن السؤال الكبير لماذا فشلنا في انتاج طريق مختلفة عن مسار الثورات التي عرفت في تاريخها انتكاسات وعودة الاستبداد خاصة في هذا العالم الذي يتميز بالأجسام الوسيطة والتطور التكنولوجي وقوة الإعلام ؟ هل قدرنا أن نعود إلى الحكم الفردي بعد تعثر المسار الانتقالي ؟ وهل عودة الحكم الفردي هي حتمية تاريخية في كل الثورات ؟ أم يمكن أن ننتج طريقا مختلفة عن طريق انتكاس الثورات ؟ اليوم البديل المقترح يعود بنا إلى ما عرفته الشعوب بعد تجربة الثورة وعودة الاستبداد ممثلا اليوم في الشعبوية.
السؤال اليوم والذي جعل جانبا من الشعب وغالبية النخب ترفض التمشي الذي سار فيه قيس سعيد هو لماذا في كل مرة نقع فيها في أزمة سياسية إلا و نعيد انتاج نفس الحل وهو أن هناك منقذ ممثل في شخص واحد هو من بيده المخرج  وهو الملهم والمخلص؟ لماذا نعود دوما إلى الاستنجاد بالسلطة والرجل القوي وقوة الجيش والسلاح والحال أننا شعب يتوفر على الكثير من الكفاءات والقدرات في جميع المستويات ؟
لعل الجواب على كل هذه الأسئلة في كوننا مجتمع محافظ مازال محتكم بقيم الذكورية ومازال يقدس سلطة العائلة وسلطة الأب وقد تعودنا  أن نترك للأخر يختار مكاننا ونحن لم نرب الناس على الحرية كمسؤولية الاختيار والقرار . حسب التجارب الانسانية ما يحصل لنا اليوم يمكن اعتباره نزعة عابرة لن تدوم طويلا ليعود الوضع إلى حالته الطبيعية خاصة وأن الرئيس مازال حريصا على الغموض والتعتيم ولم يفصح عن تصوره لتونس كما يراها في المستقبل و لم يقدم لنا رؤيته لتونس الغد ؟ إن التشخيص بأن هناك فساد هو إجراء مهم لكن الأهم منه هو معرفة كيف سيتم تغييره ؟ ولأنه يملك السلطة فقد اختار هذا الحل الذي عبر عنه يوم 25 جويلية وواصل فيه بالأمر الرئاسي عدد 117 والحال أنه كانت أمامه خيارات أخرى.
المشكل في كون رئيس الجمهورية يعترف بلحظة 17 ديسمبر 2010 ولا يتعرف بحدث 14 جانفي 2011 ومن هنا بدأ الفرز السياسي الخطير الذي وصل إلى تقسيم الشعب إلى وطنيين أحرار في مقابل ‘العملاء’ و’الخونة’!  
الفوز لو يجره التاريخ بعد سنوات فهذا يعد أمرا عاديا كما هو الحال في زمن الاستعمار حيث يحصل التمييز بين الوطنيين والعملاء فالقضية الوطنية تجري فرزا والديمقراطية كذلك وفي الأخلاق هناك فرز بين الاخيار والأشرار لكن الفرز الذي قام به رئيس الجمهورية قد خلق مشكلا كبيرا لأن القول بأن ثورة الهوامش أو الدواخل قد سطا عليها المركز هو قول فيه تجن على الثورة لأن في الهامش يوجد مركز ثراء ومركز نفوذ وجاه وتسلط وفي المركز هناك هامش ، في المدن الكبرى هناك هوامش ومناطق مهمشة وانخراط الطبقات الوسطى والعليا هو الذي جعل ما حدث يتحول إلى ثورة والسؤال هو لماذا حدث سيدي بوزيد لم يبق انتفاضة محلية وجهوية؟

مربع العنف والحرب الأهلية

مظاهرات داعمة لقرارات رئيس الجمهورية تطالب بحل البرلمان

الجواب هو أن تمدد الغضب الشعبي في المجال وانتقاله إلى كل مدن وجهات البلاد وتمدده المعنوي و المجتمعي هو الذي جعل منه ثورة والرئيس يخطأ حينما يقول إن قوس 17 ديسمبر قد فتح ولم يغلق لأن القوس قد أغلق مع هروب الرئيس بن علي وهذا يعني أن المجتمع التونسي بجميع طبقاته الوسطى و السفلى والعليا وبجميع أطيافه قد نجح بأن يدفع الرئيس نحو الهروب والقول بأن الثورة كان طابعها تلقائيا وعفويا ودون قيادة ولا برنامج هو قول يحتاج إلى تنسيب لأن هناك حدود دنيا من التنظم في أوساط الشباب والمعطلين وفي بعض الأحزاب السياسية الصغرى التي كانت في الواجهة وتمتعت بطاقة كبرى للمعارضة ، اتحاد الشغل ، المحامون ، الجمعيات النسوية ، الفنانون كل هذه الفئات كانت منظمة و كان لها وعي تاريخي وحس مدني واستشراف واستعداد للمواجهة وهي التي خلقت من الثورة بالمعنى المجتمعي ثورة وأطاحت بمنظومة الرئيس بن علي واليوم قيس سعيد يعتبر أن 14 جانفي هو خطر على الثورة بينما الخطر على الثورة هو عدم استئناف مسارها بمعنى أن التركيز على حدث 17 ديسمبر فقط هو إرجاع الثورة إلى مربع الحرب الأهلية وإرجاعها إلى مربع العنف…

إنقاذ الدولة؟

تونس تتجه نحو مرحلة جديدة بعد تعليق أعمال البرلمان

إن الفكرة الفلسفية التي تقوم عليها فكرة الاستثناء هي أن الدولة عندما تكون في حالة الخطر الداهم يكون بمقدورها أن تستمر وتؤمن استمرار المرافق والمؤسسات والقوانين وأن حال الاستثناء هو إنقاذ لها والرئيس يعتبر أن له مهمة تاريخية في  إنقاذ الدولة بفضل حالة الاستثناء، وفي هذا جزء من الحقيقة ذلك أن الدولة لم تكن قادرة أن يكون لها برلمان حقيقي بالمعنى الديمقراطي للكلمة وقضاء مستقل وأمن جمهوري ومحايد و وإرادة للفصل في جرائم الاغتيالات السياسية وأن تواجه الأزمة الوبائية وكانت عاجزة على إخراج الحياة الاقتصادية من يد عدد قليل من العائلات النافذة ولكن المشكل أن قيس سعيد  قد استغل هذا الفراغ الموجود ونظر للفضاء الاحتجاجي الذي بدأ يتسع وربط الصلة معه في غياب واضح للنخب فيما يجري للشعب وقام بتوظيف الفضاء الاحتجاجي وقدر أن يحقق التواصل مع المطالب المجتمعية الاحتجاجية و الشعب وجد نفسه في العرض الذي قدمه الرئيس لكن خطأه أنه مثلما اعتبر أن له مهمة إنقاذ الدولة لم يقبل ويرضى أن يكون لدينا نحن أيضا دور إنقاذ المجتمع  في تعدده وانتظامه وحقه في الاختلاف وإنقاذ الحياة السياسية التي ترذلت.