
كتب: نوفل سلامة
كما هو معروف تستعد الحكومة التونسية إلى الذهاب في الأسابيع القادمة خلال شهر ماي المقبل إلى الولايات المتحدة الأمريكية لمقابلة صندوق النقد الدولي والاجتماع بمسؤوليه من أجل جولة جديدة من المفاوضات بعد أن انقطع الاتفاق القديم نتيجة عدم جدية الطرف التونسي في الإيفاء بتعهداته تجاه الصندوق…
وهو الذي تولى بعد الثورة وسقوط نظام بن علي مرافقة الدولة التونسية وإسنادها ماليا ومنحها قروضا مالية متتالية لمجابهة الصعوبات المالية التي طرأت مقابل تعهدات التزمت بها الحكومات المتعاقبة من دون أن تجرأ أي منها على تطبيقها….
تخلف الدولة التونسية عن الإيفاء بإلتزاماتها تجاه المانح الدولي جعله يفقد ثقته في المسؤول التونسي ويطلب إنهاء الاتفاق والتعاقد.
المهم اليوم هو أن صندوق النقد الدولي قد قبل استئناف الحوار مع الحكومة التونسية من أجل ابرام اتفاق جديد يمنح الدولة التونسية قرضا جديدا هي في حاجة إليه لتمويل الميزانية والخروج من حالة العجز المالي وهو قرض يقول عنه كل المختصين والخبراء الاقتصاديين إنه ضروري للغاية ولا مفر منه لإنقاذ الوضعية المالية للدولة التونسية التي تعيش على وقع حالة إفلاس غير معلن…
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هو ماهي شروط صندوق النقد الدولي لاستئناف الحوار مع الحكومة التونسية؟ وما هي ملامح هذا الاتفاق الجديد الذي من المُرتقب أن تمضي عليه الحكومة التونسية؟ وهل من كلفة لهذه الجولة الجديدة من الاقتراض من صندوق النقد الدولي؟
ليس خافيا على أحد أن ذهاب الحكومة هذه المرة لملاقاة صندوق النقد الدولي وإجراء حوار معه من أجل الحصول على القرض المالي يأتي والدولة التونسية ليست في أحسن أحوالها وتعيش وضعية ضعف كبير بما يعني أن الحكومة سوف تذهب للحوار وهي مثقلة بالكثير من المشاكل ومكبلة بالكثير من الإكراهات الاجتماعية وتعصف بها مشاكل سياسية جمة أخطرها تأزم العلاقة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وبين رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان، وهي وضعية تعكس غياب الاستقرار السياسي المطلوب في مثل هذه الظروف ذلك أن المانحين الماليين الدوليين يرغبون في توفر قدر من الاستقرار السياسي لضمان مفاوضات جدية تسمح بنجاح تطبيق البرنامج الذي سيقع الاتفاق عليه ومن وراء ذلك ضمان استرجاع الأموال المقرضة.
ما هو واضح اليوم أن صندوق النقد الدولي يشترط على الحكومة التونسية لتمكينها من القرض المطلوب تطبيق برنامج إصلاحات عاجل وتنفيذ حزمة من الشروط والأهم من ذلك الجدية في الايفاء بكل التعهدات والالتزامات التي سوف يتم الاتفاق عليها.
من أهم هذه الشروط التي يطلبها الصندوق الشروع في إصلاح المؤسسات العمومية في اتجاه تخلص الدولة من العبء المالي الذي تتكبده من وراء مواصلة دعم المؤسسات الخاسرة والتي تعرف عجزا ماليا والحط من كتلة الأجور في القطاع العام الذي بلغت نسبته حوالي 17.6 بالمائة من الناتج المحلي الاجمالي وتستأثر بحوالي 45 بالمائة من حجم ميزانية الدولة وهي من أعلى المعدلات في العالم. والتقليص من عدد الموظفين العموميين الذين بلغ عددهم حوالي 700 ألف موظف وهو كذلك من أعلى الأرقام في العالم. والتقليص من نفقات دعم المواد الأساسية في اتجاه التخلي عن منظومة الدعم نهائيا وخاصة الحد من الدعم في مجال الطاقة المتسبب الرئيسي في العجز المالي للدولة.
هذه هي المحاور الثلاث الرئيسية التي يشترطها صندوق النقد الدولي لإبرام اتفاق جديد مع الحكومة التونسية يسمح بجولة جديدة من التعاون والمرافقة المالية لسنوات قادمة وهي شروط أو إملاءات وإن كانت ضرورية وتحتاجها الحكومة لإنقاذ المالية العمومية إلا أن مضمونها خطير للغاية على مفهوم الدولة الوطنية ودور الدولة الاجتماعي وكلفتها سوف تكون باهظة على الوضع الاجتماعي وعلى الطبقة المتوسطة…
الخطير في هذا الاتفاق الجديد الخفي مضمونه وغير المعلن في كونه سوف يُرتب منوال تنمية جديد ومختلف تفتقد فيه الدولة لدورها الاجتماعي ويجعلها تفك كل ارتباط لها مع الهاجس الاجتماعي وكل تدخل مباشر لإسناد ومرافقة الفئات الفقيرة وخاصة الحفاظ على الطبقة المتوسطة.
الخطير والذي لم يُقل وتم تغطيته بحاجة الدولة للقرض المالي للصندوق هو في مفهوم الاصلاحات التي يشترطها المانح الدولي والتي ترمي أساسا وبصفة جوهرية إلى تغيير منوال التنمية وتصحيحه في اتجاه تقليص المساحة الممنوحة للدولة للتحرك والحد من كل تدخل لها في القطاعات الحيوية والتقليص من دورها الاجتماعي، بما يعني رفع يد الدولة عن كل ما هو مرفق عام وعن تدخل في هذه القطاعات وبما يعني إرساء منوال تنمية جديد يقوم على القطاع الخاص وجعله هو قاطرة التنمية ومحرك الاقتصاد وحصر دور الدولة وقصره على سن التشريعات والقوانين والقيام بالوظيفة التعديلية وترجمة هذا المفهوم الذي يتبناه صندوق النقد الدولة لمعنى برنامج الاصلاح أو برنامج الإنقاذ الذي يشترطه هو خصخصة الشركات العمومية من كهرباء وماء صالح للشراب ومدرسة عمومية وقطاع الصحة وقطاع النقل وغير ذلك من القطاعات التي يحتاجها المواطن ويحتاج إلى تدخل الدولة فيها…
ومن هنا نفهم التردد المتواصل للحكومات المتعاقبة في الإقدام على ما يطلبه صندوق الدولي من إصلاحات لكلفتها الباهظة، فشعار هيكلة المؤسسات العمومية ومراجعة رأس مالها والذي استبدل بمصطلح الخصخصة لتخفيف وقعه وتسهيل هضمه يترجم على أرض الواقع في تسريح الموظفين وتراجع المقدرة الشرائية والتخلي عن فكرة المرفق العام والتخلي النهائي عن منظومة الدعم..
ما هو خفي في هذا الحوار المرتقب مع المانح الدولي هو التوصل إلى اتفاق تتحصل بمقتضاه حكومة المشيشي التي حملت معها كل من اتحاد الاعراف والبنك المركزي على القرض المطلوب مقابل حزمة من الاصلاحات سوف تنهي فكرة الدولة الوطنية التي تلعب دورا اجتماعيا والتي تحتكر التدخل في القطاعات الحيوية لعيش المواطن والتي تحافظ على الطبقة الوسطى والحامية للطبقات الضعيفة…
فهل نعيش مع حكومة المشيشي مرحلة انهاء الدور الاجتماعي للدولة؟ وهل نعيش على وقع رياح عاتية سوف تكون كلفتها باهظة جدا على الطبقات الفقيرة والمتوسطة؟