
كتب: نوفل سلامة
هناك اليوم إجماع دائرته تتسع بطريقة مكثفة على أن البلاد تعرف أزمة غير مسبوقة في تاريخها المعاصر تشبه إلى حد كبير ما حصل في الإيالة التونسية في أواخر القرن التاسع عشر مع قدوم لجنة الكومسيون المالي في سنة 1869 في عهد الصادق الباي…
وهناك اتفاق بين النخب الفكرية والطبقة السياسية على وجود أزمة عميقة تكبل البلاد وتمنعها من التحلل من رواسب المرحلة الانتقالية بعد الثورة التي دامت أكثر من اللزوم بتعثر تركيز الهيئات الدستورية الضرورية لاستكمال البناء الديمقراطي، وهناك انطباع عام على تخبط البلاد في أزمة عميقة أبعادها متنوعة تهدد الدولة في وجودها تجاوزت الإكراهات الاقتصادية والاجتماعية والأزمة الصحية الخانقة والمخاوف المالية بتزايد التداين الخارجي وعجز الدولة عن الإيفاء بالتزاماتها ومنها تغطية نفقاتها العمومية لتصل إلى الأزمة السياسية وإلى أزمة ادارة الحكم وأزمة غياب التنسيق بين السلط الحاكمة وما نتج عنه من شلل في مؤسسات الدولة…
ومن قطيعة بين رأسي السلطة التنفيذية وأزمة أخرى بين الرئاسة والبرلمان عنوانها عدم اعتراف الرئيس بما منحه الدستور لبرلمان الشعب من صلاحيات بصفته سلطة مستقلة…
وعلى أطراف هذا المشهد المأزوم هناك أزمة أخرى في الاعلام في علاقته بما يحصل من تجاذب سياسي وبما تعيشه مختلف مؤسساته من تيه وتخبط بعد أن وجدت نفسها خارج اعتراف الرئيس بها، وأزمة أخرى في تراجع دور الاتحاد العام التونسي للشغل الذي ينعت نفسه بكونه أقوى قوة في البلاد وعجزه عن إجراء حوار دعا له منذ ما يزيد عن الستة أشهر لم يجد له تحمسا في اعلى هرم السلطة وعجزه على إيجاد مخرج من هذا التعنت الذي يتجلى في سلوك الرئيس ورفضه الصريح الحوار مع الجميع…وآخر غير المعلن لدعوة الاتحاد من دون أن نجد للمنظمة الشغيلة نفس الحزم والقوة التي عهدناها عنها في تعاملها مع كل الملفات السابقة التي كان فيها صوت الاتحاد عاليا…
لفهم هذه الأزمة المعقدة والمركبة والتي تتداخل فيها عناصر عديدة وتتشابك فيها معطيات كثيرة ومن أجل توضيح الرؤية وتحديد الأسباب العميقة لما تعيشه البلاد من عطب نحو تجاوز جذور الازمة وإيجاد المخرج لها والحل الملائم لرسم خارطة طريق تساعد البلاد على التخلص من كل مكبلاتها وأعطابها نظم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ندوة فكرية يوم السبت 12 جوان الجاري استدعى لتأثيثها الحبيب بوعجيلة أستاذ الفلسفة والباحث في الشؤون السياسية ورضا شهاب المكي الباحث في الشأن التربوي والناشط في المجتمع المدني والقريب من الحزام الفكري للرئيس قيس سعيد وأيمن بوغانمي استاذ جامعي ومتابع للشأن الفكري والسياسي وأحمد غيلوفي أستاذ فلسفة وباحث ومحلل سياسي.
في هذه الندوة كان الهاجس هو كيف يمكن أن تفهم ازمة البلاد الحالية من خارج المقاربة القانونية التي غرقت في كل ما هو قانوني تشريعي وانحصرت فيما سمي بصراع التأويلات للدستور بين الرئيس و المختصين في القانون الدستوري الذين يرون أن إدعاء قيس سعيد انفراده بفهم وتفسير الدستور هو لب الازمة كما كان المطلوب في هذا اللقاء هو التفكير في مقاربة اخرى خاصة وان التحليل القانوني قد انتهى إلى أن الأزمة لها أبعاد سياسية وحلها لن يكون إلا سياسيا وهذا يتطلب القيام بتحليل من خارج المقاربة القانونية والعود بها إلى جذورها العميقة وذلك ليس لعدم اهمية المقاربة القانونية وإنما الاستبعاد هو منهجي للإجابة على جملة من الأسئلة منها هل فعلا نحن في أزمة كما يروج لهه ؟ واذا كنا نعيش أزمة فما هو محتواها وما هي أبعادها؟ وهل يمكن إدراك خلفياتها وتداعياتها ؟ كل هذه الأسئلة كانت محل نقاش وحاور مثمر دار بين الأساتذة المحاضرين والجمهور الذي ساءلهم.
ليست حالة معزولة..
من الأفكار التي يدافع عنها رضا شهاب المكي في فهم الأزمة التي تعرفها البلاد أن ما يحصل ليس منعزلا عما يعيشه العالم وأنه لفهم الأزمة علينا أن نفهم يا يحصل في العالم من تحولات ومتغيرات مؤثرة حيث يعتبر أن الانسانية في راهنيتها قد دخلت عصرا جديدا يتجاوز المسألة الوطنية والقطاعية والشأن المحلي إلى فضاء أشمل وأرحب سمته أن منظومة العولمة التي جعلت من الكرة الارضية قرية صغيرة كل شيء فيها مندمج في منظومة قيم كونية كل أجزائه بعضها يؤثر في بعض وهذا كله يثر بقوة في الخيارات الاقتصادية والاجتماعية وفي منظومة القيم والأفكار ويؤثر كذلك في السياسات الحكومية وهذا ما يفسر كيف أن الدولة بصدد التخلي عن الكثير من مهامها والتراجع عن التدخل في الكثير من القطاعات التي كانت في السابق من مشمولاتها ومن تداعيات هذا التغيير الحاصل في مهام الدولة انهيار المنظومة الاجتماعية والسياسية وما رافقها من بداية اضمحلال “الوسائط” التي تنظم علاقة الحاكم بالمحكوم والحديث عن تراجع الوسائط يؤدي إلى الحديث عن تهالك وتهاوي الآليات التقليدية للوصول إلى السلطة والحكم فمعظم الوسائط الاجتماعية والسياسية التي حكمت الديمقراطية الغربية وآلياتها المرافقة لها من منظمات عمالية وجمعيات المجتمع المدني تعرف اليوم أزمة في تمثيل الشعب وأزمة في قدرتها على ايصال صوته وجدواها في تحقيق ما يريده الأفراد بما يعني أن العالم اليوم يعيش على وقع أزمة تراجع كل الأنظمة التي وضعها وكل الوسائط والآليات والأساليب من أجل حكم ديمقراطي رشيد وحياة اجتماعية مثلى…
وهذا التحول الذي يشهده العالم في مستوى أفكاره السياسية والاجتماعية والاقتصادية والذي غير من صورة ودور الدولة وغير نظرة الناس لجميع الوسائط التي تقوم عليها الديمقراطية الغربية كما هي مطبقة اليوم قد جعل الموقف من الأحزاب السياسية يتغير وجعل الإيمان بالوسائط يتراجع وجعل دور الدولة في المجتمع يتغير ولتكتفي بمساحة صغيرة تتحرك فيها وبمجال محدود تغطيه لا غير بمعنى أن الدولة حتى نضمن لها قدرا من الاستمرار فقد نحتاج إلى قوانينها وتشريعاتها وسجونها لضبط الأفراد لا غير وهذا مظهر آخر من مظاهر أزمة الدولة على مستوى العالم وأزمتنا في تونس لا تخرج عن أزمة العالم وبالتالي لا يمكن أن نفهم ما يحصل لنا من دون فهم حالة التعطل والانهيار الذي يعيشه العالم في منظوماته وأفكاره وسياساته.
صراع بين فكرتين أساسيتين…
ما أراد رضا شهاب المكي قوله من خلال هذا التحليل النظري لما يحصل من مطارحات فكرية في الغرب واستحضار التغيرات العالمية في علاقة بتراجع منظومة الحكم القائمة على فكرة الديمقراطية التمثيلية وعلى فكرة الأحزاب السياسة وتمثيلها الشعب في البرلمان وربطه بين الأزمة الداخلية بما يشهده العالم من أزمات حول نظرية الحكم القائمة على الآليات الديمقراطية كما هي مطبقة، أن أزمتنا الخانقة هي ارتداد طبيعي لما يعرفه العالم من أزمة في الأفكار السياسية وأزمة في الحكم وبأكثر وضوح فإن الأزمة السياسية اليوم حسب رأيه سببها صراع في الرؤية السياسية وصراع بين فكرتين أساسيتين واحدة يتبناه رئيس الجمهورية وشعاره الشعب يريد والتي ترفض التعامل مع المنظومة التي تتبنى خيار الديمقراطية التمثيلية ووسائطها من أحزاب وأعلام ومجتمع مدني وبين فكرة أخرى تعتبر أن أرقى ما وصل إليه الفكر الانساني في الزمن الراهن هو الديمقراطية التمثيلية القائمة على الانتخاب المباشر والتداول السلمي على السلطة وعلى الاقتراع الحر القائم على القائمات الحزبية فهي أزمة بين مشروعين يتصارعان من أجل البقاء والوجود وصراع حول الحكم. أزمتنا مركبة تعود إلى التحولات التي تعرفها الدولة بعد 350 سنة من نشوئها وهي من أزمة هذا العالم الذي بدأ يتغير وبدأ بلفظ افكاره ونظمه وخياراته نحو البحث عن منظومات جديدة وأفكار مختلفة .
مقاربة الأستاذ الحبيب بوعجيلة تنطلق من المعطيات الواقعية ومن خلال تحديد مفهوم الأزمة وطبيعتها فهو يعتبر أن الأزمة الحالية التي تعيشها البلاد هي مأزق لا حل له من دون إلغاء طرف لأخر بعد أن استعصى التعايش والتفاهم بين جميع الأطراف وبعد أن عسر إيجاد منطقة وسطى ذلك أن كل طرف بات متشبثا بأطروحته ولا يريد التنازل عنها هو صراع بين طرفين أو أكثر وكل طرف يدعي ويتمسك بامتلاك الحقيقة والصواب ويستحوذ على المشهد إنها أزمة في مأزق عام .
يعتبر الحبيب بوعجيلة أن ما نعيشه اليوم وما نشهده من أزمة خانقة عطلت كل شيء وأوحت بوجود نفق مظلم لا مخرج منه هو من مخلفات الأيام الأولى للثورة ومن تداعيات المرحلة الانتقالية التي لم تحسم مع الأسئلة الجوهرية ولم تسو الإرث القديم بطريقة مثلى فهو ينطلق في تحليله للأزمة الراهنة من مجريات الحكم بعد رحيل بن علي وكل ما حصل خلال مرحلتين في ممارسة السلطة ( مرحلة 2011 – 2014 ومرحلة 2014 – 2019 ) وهي أحداث تراكمت وتكثفت حتى أوصلتنا إلى هذه الازمة لتنتهي بنا إلى مأزق و انسداد وهو مسار تحكم فيه صراع القديم مع الجديد ومحاولة الجديد حسم المعركة مع الماضي من دون الرجوع إلى مثال الثورات الدموية وخير حسم الصراع على قاعدة الجديد وبشروطه وهذا ما فرض الذهاب نحو فكرة التوافقات من أجل انجاح المسار الانتقالي لكن ما حصل أن بعد انتخابات 2019 تراجعت النهضة التي كانت تمثل الجديد من دون أن يكون تراجعها حاسما وتم تسوية الموضوع السياسي بحصاد ثوري ضعيف جدا وتم وضع تسوية على قاعدة القديم.
مشهد غير طبيعي
إن المشكل هو أن انتخابات 2019 قد حصلت بمزاج الجديد وبروحه لأنه لم يعاقب الطرف الأساسي الذي سوى مع القديم ورشح الصندوق معه أطرافا أخرى لاستئناف المسار الثوري الذي عمل القديم على اجهاضه بعد انتخابات 2014 وعاد الجديد ممثلا في القوى المنسوبة للثورة ( النهضة ، التيار ، الشعب و ائتلاف الكرامة ) لكن الأزمة بدأت حينما لم يتم الوعي بهذا المزاج الذي استعاد وهج الثورة قبل أن يغدر بها من جديد من قبل القوى التي رفعت شعار مواصلة مسار الثورة فكان أن تكون مشهد جديد غير طبيعي عناصره رئيس جمهورية ينتمي إلى التيار الشعبوي مع ولادة أحزاب وظيفية جديدة و بروز قوى أخرى من قلب القديم تمثلها فاشية الدستوري الحر وهكذا ولد مشهد سياسي هجين لا يمكن أن تتعايش مكوناته من دون إقصاء وهو مشهد غير عادي نتيجته التقاء موضوعي ولكن غير طبيعي ولا تاريخي جعلت الأزمة تتسم بفقدانها لكل المعايير والمقومات مشهد التقت فيه الشعبوية مع الفاشية مع الوظيفي والنتيجة هو تحالف هذه القوى معا في إسقاط كامل المسار واستعدادهم للتضحية بالثورة حيث أصبحت الثورة وجهة نظر ويبرر لها بقيم أخلاقية تريد أن تقنع بأنه من الممكن أن ننتصر للثورة بسلاح غير ديمقراطي وببنية معرفية غامضة من أجل هدم كل ما أنجزته المرحلة التأسيسية . وزاد المشهد تأزما دخول المعطى الأجنبي واللاعب الدولي الذي عمل منذ البداية على إفشال الحدث الثوري ليزيد المشهد ارباكا والوضع تأزما.
ما أراد قوله الحبيب بوعجيلة أنه بقدر ما كانت الأزمة تحمل في ظاهرها شحنة سالبة إلا أنها في الحقيقة حدث ضروري يتولد عنه انفراج ولو بعد حين وأزمة البلاد اليوم رغم أنها معقدة ومتشعبة ومثقلة بكثير من التراكمات والأخطاء وبكثير من القناعات التي تكونت خلال التجربة إلا أنها قد أظهرت حقيقة المشهد التونسي وهو مشهد يتحكم فيه صراع بين قوتين قوة الجديد الذي يريد أن يثبت أركانه وقوة القديم الذي يعمل على استعادة مكانته وطالما أننا لم نفهم طبيعة المعركة فإننا لن نفهم هذه الأزمة ومن ثم لن نقدر على حلها.