صالون الصريح

الأمين الشابي يكتب: جدلية التنمية والثقافة في حياة الشعوب…

كتب: الأمين الشابي

ما الثقافة؟ وما التنمية؟ وما علاقة الثقافة بالتنمية البشرية المستدامة؟ وما مجمل الآليات لتحقيق التنمية الثقافية؟ تلكم هي أهم الأسئلة التي سنحاول الإجابة عنها في هذه الورقة بحكم تلازم هذين المفهومين (التنمية و الثقافة)؟
فما مفهوم التنمية و ما مفهوم الثقافة؟ و لماذا هما متلازمان و أساسيان في حياة الشعوب؟

ركائز الحضارة

من المعلوم، أن الحضارة تركز على عنصرين أساسيين،  عنصر مادي، يتمثل في التكنولوجيا والعمارة والتقنيات، وعنصر معنوي، يتمثل في الثقافة بتجلياتها الإبداعية والأدبية والفنية والنقدية.
ومن ثم، تعد الثقافة من أهم العوامل الأساسية لتحقق التنمية، فلم تعد التنمية الاقتصادية هي التنمية الوحيدة التي تشبع رغبات الإنسان، وتسعده ماديا وعضويا، بل الإنسان في حاجة إلى إشباع رغبات أخرى أكثر أهمية من تلك الرغبات المادية والغريزية، على غرار الرغبات العقلية، والأدبية والفنية، و الروحانية والنفسية.
الثقافة والمثقفون و التنمية..

مفهوم الثقافة

الثقافة هي كل ما يتعلق بالعلوم والفنون والآداب والمعتقدات والأديان. و تشمل مجموع المعارف والمعتقدات والفن والقانون والأخلاق والتقاليد.
وقد عرفها أحد المفكرين  بأنها ” كل ما يصور تجارب الإنسان شعرا، ونثرا، ولونا، ونغمة، وشكلا، وصورة، أيا كان شكله، ونمطه، وهدفه، وأصالته، ونوعيته. و كل ما من شأنه أن يخرج أحوال الناس من برجها الذاتي إلى ساحة الإدراك والتذوق والفاعلية”. والهدف من الثقافة هو تحقيق المتعة الوجدانية والمنفعة المادية. فهي تعبير عن نقص شعوري ولا شعوري عن حرمان على مستوى تحقيق الرغبات والنزوات والإشباع المادي. ومن ثم، فالثقافة تعويض عن النقص والحرمان والكبت.

المثقف الشعبي و المثقف المتخصص

إن المثقف والأديب أو الفنان لا يقدم مضمونا أو شكلا، بل يقدم نفعا  أو إمتاعا. ولا يمكن أن يكون هناك عمل فني دون مضمون تثقيفي أو إمتاعي. و الخلاف هو حول الأولوية بين المضمون والشكل. فلولا الصراع الطبقي، لما كان ثمة فرق بين المضمون والشكل، ولكانت مقاييس الجمال في جوهرها واحدة في تقييم الأعمال الفنية لدى كل مجتمع أو لدى كل جماعة بشرية في مرحلة زمنية معينة.
 ويختلف المثقف المتخصص عن المثقف الشعبي ، وهذا الأخير يبدو فاعلا جماعيا يحمل هموم الطبقة الكادحة، ويعبر عنها بطريقة عفوية ساذجة، أو ثورية، ومن سمات هذه الثقافة الرواية الجماعية، والذاكرة، والعراقة، والواقعية، والشفوية، وعدم التدوين.
في حين أنّ المثقف المتخصص هو الشخص الذي يمارس العمل الذهني والتفكير، وينتج الآداب والعلوم والفنون، و يخترع التكنولوجيا. ويعرف هذا المثقف بكونه ذلك الشخص الذي ينتج أثرا، كالشعراء، والناثرين، والكتاب، والموسيقيين، والفلاسفة، والتشكيليين، والسينمائيين، والمسرحيين. و الإعلاميين وغيرهم ، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على مدى تعدد فروع الثقافة، وكثرة أقطابها ومسالكها و محترفيها.

التنمية مفهوم أشمل من النماء الاقتصادي

من يقول تنمية يقول مباشرة الزيادة و الوفرة و النماء الاقتصادي و بالتالي تهدف التنمية إلى تحقيق أفضل الظروف لحياة الأفراد داخل المجتمع و من هنا نستشف المفهوم الاقتصادي المحض لمفهوم التنمية، قبل أن يكون مفهوما سياسيا أو اجتماعيا أو فكريا أو ثقافيا. ولكن يشكل مفهوم التنمية ما يسمى بالسهل الممتنع أمام الباحثين والمهتمين بقضايا التنمية، حيث تتعدد التعريفات بتعدد الاتجاهات والرؤى النظرية. و نرى بصفة مبسطة جدّا و أنّ التنمية هي تحقيق الاكتفاء الذاتي اقتصاديا و ذلك على أساس وضع استراتيجية تنموية تحقق حاجيات المجتمع في ظل المتغيرات. بل نضيف و أن التنمية لم تعد بمعزل عن تطور عناصر أخرى على غرار ربطها بجودة التعليم و تأهيل البحث و مسايرة التكنولوجية الحديثة. فالتنمية أصبحت هي آلية التطور و الازدهار و التقدم و تتخذ مستويات مختلفة و تتجلى سياسيا و اقتصاديا و اجتماعيا و ثقافيا، فهي تهدف فيما تهدف إلى الرفع من المستوى المعيشي للإنسان ماديا و معنويا و روحيا و ذلك عبر توفير التعليم اللائق و الصحة الضرورية و الدخل المناسب و إيجاد الشغل الذي يتلاءم مع مهارات و كفاءة الشخص، فضلا عن مراعاة حقوقه الطبيعية المكتسبة. فالتنمية بالتالي هي عملية التغيير وفق تخطيط معين من أجل التحول من حالة التخلف إلى حالة التحول التنموي على كافة المستويات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية. فهي عميلة متعددة الأغراض والأهداف وفق الإمكانات المتاحة. لذلك نقرّ بوجود تلازم بين مفهوم الثقافة و التنمية.

التلازم بين الثقافة و التنمية

إن هدف التنمية البشرية المستدامة ليس مجرد زيادة الإنتاج كما أسلفنا حول المفهوم المجرد للتنمية آنفا، بل هو تمكين الناس من توسيع نطاق خياراتهم ليعيشوا حياة أطول وأفضل، وليتجنبوا الأمراض، وليملكوا المفاتيح لمخزون العالم من المعرفة. و من هنا نستشف التطور الحاصل بين مفهوم التنمية في مفهومه الاقتصادي البحت و مفهوم التنمية المستدامة و علاقتها الجدلية بمفهوم الثقافة. لتصبح التنمية عملية تطوير القدرات لا عملية توفر المنفعة أو الرفاهية الاقتصادية كما ينظر إليها سابقا. فالأساس في التنمية البشرية المستدامة ليس الرفاهية المادية فحسب، بل الارتفاع بالمستوى الثقافي للناس بما يسمح لهم أن يعيشوا حياة كريمة، ويمارسوا مواهبهم ويرتقوا بقدراتهم وعليه، تنبني التنمية المستدامة على أربعة عناصر مهمة و هي: الإنتاجية الإبداعية في المجالات المادية والمعنوية والروحية، وتطبيق حقوق الإنسان، سيما المساواة بين أفراد المجتمع الواحد، دون تمييز لوني أو ثقافي أو لغوي أو ديني أو عرقي، وتمثل سياسة الاستدامة بأن تكون التنمية غير مقتصرة على الحاضر، بل تمتد إلى المستقبل  من خلال التفكير في أجيال المستقبل. وهذا الكلام يحيلنا على مفهوم جديد للتنمية الشاملة و المتعارف عليه بـ التنمية البشرية المستدامة.
فالتنمية المستدامة  ترتكز على أربعة عناصر أساسية لها علاقة بتنمية الفرد أو الإنسان أو المجتمع البشري و هي، البعد الاقتصادي، والبعد الاجتماعي، والبعد البيئي، والبعد الثقافي. ولابد أن تتكامل هذه الأبعاد الأربعة جميعها بطريقة جدلية تفاعلية متكاملة، فلا تنمية حقيقية بدون هذه الأبعاد الأربعة؛ لأن الدول المتقدمة التي لها تجارب كبرى في التقدم والتنمية والحداثة أثبت أهمية هذا التلازم و اعتمدت على المعطى الثقافي كثيرا في تطوير الذات الفردية، وتعديل سلوكها، وتغيير تصرفاتها، وتطوير قدراتها المعرفية والذكاء والوجدانية لديها إلى جانب صقل مواهب الأفراد عقليا ووجدانيا وحركيا، وتنميتها فنيا وجماليا وروحيا ودينيا وثقافيا وعلميا. وبالتالي التنمية المستدامة هي عبارة عن قاطرة المجتمع، ودعامة للرقي الاجتماعي والمادي، وآلية إجرائية للقضاء على الفقر والجوع والبطالة والتخلف.

آخر الكلام

وفي آخر الكلام نسأل على أخذت بلادنا بهذا المفهوم الشامل للتنمية أم مازلنا نلوك نفس المفاهيم القديمة للتنمية لا بمفهومها الشامل؟ و هل أعددنا الأعمدة الأساسية لتركيز هذا التنمية المستدامة؟ و هل فعلا فكرنا في الأجيال القادمة ؟ أم نحن مازلنا نعاني الأمرّين لتغييب المفكرين و المبدعين و المختصين للأخذ بناصية هذا المفهوم الجديد للتنمية المستدامة؟ والتنمية الحقيقية أو التنمية الشاملة القائمة على العلم والتكنولوجيا، لا يمكن تحقيقها عن طريق نقل التكنولوجيا أو استيرادها جاهزة من الدول المتقدمة، فلابد من الاعتماد على النفس، وعلى  فلسفة الإبداع والتجديد والابتكار. ولا يتأتى ذلك إلا بالمقاربة الثقافية التي تعمل على توعية المجتمع في شتى نواحي الحياة، وتسعى إلى ترقية مستوى الفكر لدى الشعب، وتربية الذوق الفني، وترقية الإحساس الجمالي في التعامل مع الأشياء والمنتوجات الثقافية والفنية والأدبية والتقنية. بمعنى أن الثقافة هي التي تؤدي، بالمواطن الصالح المنتج، إلى الاهتمام بالعلم والتكنولوجيا. فهل الحلم ممكن اليوم في ظل المشاحنات الجانبية ، التي يعيشها مجتمعنا خاصة السياسي منه، على حساب المشاغل الهامة و الحقيقية لتنمية بلادنا ووطنا تنمية شاملة تأخذ بعين الاعتبار بعناصر التنمية المستدامة من أجل غد أفضل ؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى