صالون الصريح

د. أحمد ذياب يكتب: بين القيروان و’بلاد الطليان’…

كتب: د. أحمد ذياب

حين قال لهم في عقر دارهم: أنتم حللتم بيننا ضيوفا كراما مبجلين رغم فقرنا…هجرتم بلاد الطليان من جنوبها ومن صقلية وسردينيا وحللتم بالشواطئ التونسية في القرن العشرين.. لم نكن أكثر من مليون وخمسمائة ألف تونسي.. شتات من أنفار هنا وهناك… وكنتم مائة ألف… واليوم ها أنتم تعدون خمسة وستين مليونا إيطاليا.. وقد حلّ بينكم مائة ألف تونسي.. بصورة شرعية وحتى غير شرعية.. فما لكم تقيمون الدنيا ولا تقعدونها؟

وإن كانت هذه الجملة الأخيرة من عندي.. أي أنّ صاحب المقولة يوم 13 مارس 2023 لم يذكرها، فقد تصورتها في مخيلته.. بل وعلى لسانه، تكاد الحنجرة تتفجر لتنطق بها ولم تفعل. لأن صاحب القول كان وزيرا.. ودبلوماسيا.. ومن عادة السياسي ألاّ يقول كل شيء… لكني حللت معه إلى برّ الطليان من القيروان حاملا لهم عدة أشياء لا يعلمونها عنّا ولا حتى عن أنفسهم. وقليلا ما ألجمت لساني عن قول حقيقة ما.
كان الأمر يتعلّق بندوة علمية دعتنا إليها عمادة الأطباء الإيطالية بمدينة سالرنو الساحلية لشهرتها الكبيرة لدينا نحن الأطباء وخاصة المهتمين منا بتاريخ الطب.

أهل القيروان أدرى..

وقد حضر وحاضر عدد من الزملاء الذين قدموا للمدرسة السالرنية بعض أسرارها لكن فضّل آخرون أن يتحدثوا عن القيروان وعن تونس وما قدمت لأوروبا فأهل مكّة أدرى بشعابها وأهل القيروان أدرى بما قدموا لأولى المدارس الطبية في أوروبا في القرن التاسع ميلادي.
القرن التاسع هذا كان حافلا جدا… وسبقه القرن الثامن الذي أثمر مدينة تعتزّ بتقدّمها العربي الإسلامي.. وتفتّحها.. وإدماجها لعديد الديانات.. ناهيك أن أروة القيروانية قد فرضت على أبو جعفر المنصور الصداق القيرواني وبه لم يستطع الزواج من جارية حتى وفاة أروى.. كما كان لفاطمة الفهرية السبق في بناء أولى الجامعات في العالم: جامع القرويين بفاس.

السبق الاجتماعي

هذا السبق الاجتماعي منح المناخ للمدرسة الطبية القيروانية بأن تتأسس.. وأن يتصدر عرشها ثلاثة أطباء هم على التوالي إسحاق بن عمران القادم من بغداد والذي ترك لنا كتابا قيما هو المالنخوليا (حققه الدكتور شمس الدين حمودة) وترك لنا فصلا بين الطب والصيدلة كما يذكر ابن أبي أصيبعة، وإسحاق بن سليمان الإسرائيلي الذي كتب باللغتين العبرية والعربية وأخيرا أحمد بن الجزار صاحب زاد المسافر وعدد كبير من الكتب الأخرى.
أطباء آخرون اتبعوا نفس النهج القيرواني، لكن فضل المدرسة هذه سوف يكون عظيم الشأن لتأثيره في الأندلس كما يعترف بذلك كبير الجراحين العرب الزهرواي والأثر البالغ في مدرسة سالرنو بإيطاليا أولى المدارس الأوروبية.

بنو هلال

المتأكد في هذا الشأن بأن قسنطين الأفريقي قد كان مسلما رحل بأغلب المراجع الطبية العربية التي جمعها من هنا وهناك ليترجمها إلى اللغة اللاتينية وليتمسّح كذلك بصورة ما نجهل تفاصيلها.. لكن الدكتور إدريس الشريف أبى إلا أن يؤكّد بأنّه لا ثبوت لنصرانيته قبل الرحيل إلى الضفة الشمالية ولا وجود أصلا ما يثبت طرده ولا كان قدوم قبيلة بني هلال (والذين نعتوا بأبشع النعوت من لدن البعض منا تعبيرا عن عدم انتمائهم إلى هذه الشرذمة) إلى تونس.. ولا كان قدوم بني هلال   هو الذي دفع قسطنطين إلى الرحيل إلى سالرنو. إذ لا أتصوّر أصلا أنّ بني هلال قد فعلوا بقرطاج ما فعله الرومان في عصر آخر… وتلك كذلك قضية أخرى.
واللافت للنظر هو أن طبيبا آخر قد سبق قستنطين، يسمونه عدلة وأسميه عبدالله بعد أن أيقنت من خصائص اللغة الإيطالية. عبدالله قد يكون رحل من الضفاف التونسية ليس قبل سنة 827 وهي السنة التي فتح فيها أسد بن الفرات صقلية وليس بعد 883 وهي كما يذكره الطليان السنة التي هدم فيها العرب دير مونتي كاسيني.
عبدالله إذن كما يعترف به زملاؤنا من الضفة الشمالية هو إلى جانب آخرين من أسس أولى المدارس الطبية بأوروبا.

فاتحة خير

قلت لهم هذا بعد أن أكّدت لهم كذلك أن عبدا إيطاليا حُمل أسيرا من راغوزة بصقلية ليصبح من أعظم القادة العسكريين ويبني مدينة القاهرة.
حتى يهدأ خاطر بعض من في نفسه ريب وشك من أننا قد كنا كما وصفنا أنفسنا بالعرب الحاملين لأكبر مجموعة من الأدوات الجراحية العربية والحاملين حضارة والحاملين عروبة نابضة تنطق بالضاد في ديارهم بطلب منهم بعد أن ترجمت لهم أرجوزتهم الجميلة جدا إلى العربية (أرجوزة المدرسة السالرنية) وطبعوها بمطابعهم …
فشكرا للقيروان وأهلها وشكرا للطليان، فقد كان من بينهم من أدمعت عيناه حين الفراق.. ومن شكر بطرق شتى… على أمل لقاءات أخرى وأعمال أخرى وما كنا قمنا به غير فاتحة خير للجميع… 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى