صالون الصريح

نوفل سلامة يكتب: مسلسل فلوجة… حالة الإنكار متواصلة…استقالة الأسرة..ومنظومة تحتضر!

كتب: نوفل سلامة  

الحدث البارز الذي صاحب الأعمال الدرامية الرمضانية لهذه السنة كان دون منازع مسلسل فلوجة لصاحبه سامي الفهري، وعن فكرة و تصور للمخرجة والكاتبة سوسن الجمني… وهو حدث لم يسبقه ضجيج كبير ولا إشهار لافت، ولكنه استطاع منذ حلقته الأولى أن يحرك السواكن في موضوع خطير ودقيق حوله كلام كثير من دون فعل ملموس يتعلق بموضوع تراجع التعليم في تونس ونهاية مشروع مدرسة الدولة الوطنية….

نقاش ساخن

وهو حدث أفرز جدلا ونقاشا فتحت أبوابه على مصراعيها بعد أن صدمت وقائع حلقته الأولى العقول المتكلسة والأفهام المتبلدة التي تواصل إتباع سلوك الإنكار للواقع الرديء المتعفن الذي عليه مدرستنا والمصرّة على نفي حقيقة التحولات الكبرى والعميقة التي تتعرض لها المدرسة العمومية التي كانت مفخرة جيل الاستقلال ومفخرة الدولة الوطنية.

حالة الإنكار

هو حدث لأنه قال الحقيقة كما هي عن صورة المدرسة وكما يقر بها الكثير من الشباب الذي غادر مقاعد الدراسة من جيل التسعينات القرن الماضي وما بعده ويقرها تلاميذ هذه الأيام بكل وثوق من الذين لا يزالون يزاولون تعليمهم ويقرها الواقع الحالي للمدرسة التونسية و للتعليم في تونس… هو حدث لأنه فرض على الجميع أولياء ومسؤولين أن يتخلوا عن حالة الانكار التي يتبعونها في نظرتهم للتعليم.. إنكار حقيقة واقعنا العفن وإنكار تردي المنظومة التربوية وتردي العلائق داخل المدرسة وإنكار تحولات المدرسة التونسية وإنكار ما يحصل داخل محيطها وخارجه.

فجّر حقيقة مدوية…

في الحقيقة بقطع النظر عن النقاش القانوني والحقوقي بخصوص دعوات إيقاف عرض المسلسل أو تأخير بثه إلى ساعة متأخرة من الليل فإن مسلسل ‘فلوجة’ ومن خلال حلقاته الأولى قد فجر حقيقة مدوية عن واقع المنظومة التربوية، وحقيقة المدرسة العمومية التونسية التي لم تعد تقوم بدورها المطلوب منها كفضاء للتدريس والتثقيف والتربية بعد أن تحولت إلى فضاء لتكديس المعلومات من دون أن يبقى منها في آخر سنوات الدراسة إلا القليل…

نتائج كارثية…

وتخلفت عن القيام بمهمتها التربوية ومهمة التثقيف وهو خيار سارت عليه الدولة التونسية حينما تخلت عن التربية والتثقيف لتجني في النهاية النتائج الكارثية التي صورها المسلسل من ترويج للمخدرات وتمرّد التلميذ على أستاذه وغياب الانضباط داخل القسم وتراجع حضور المعلم أثناء الدرس مع سلوك سلبي وضعيف إزاء ما يحصل داخل القسم وحتى دور التعليم حوله اليوم نقاط استفهام كبيرة في علاقة بمستوى من يتخرج من مدارسنا وتكوينهم الضحل الذي أكده واقع التشغيل وواقع المشاركات الدولية لتلاميذنا وهي قضية تطرح أهمية القيام بتقييم الخيارات البيداغوجية وخيارات مواد التدريس وكل العملية التربوية.
المسلسل صدم الكثير من الناس لأنه بكل وضوح طالب الجميع بالخروج من حالة السلبية وخلع جبة الانكار التي يلبسونها وطالبهم بالاعتراف بالواقع الجديد بإقرار حقيقة التحولات الخطيرة والعميقة التي تعرفها المدرسة اليوم وهي كونها فضاء ممل ويرفضه التلميذ وفضاء تمارس فيه كل الممنوعات من تناول الكحول والمخدرات وممارسة العنف والتنمر وحتى الممارسات العنصرية والتحرش…

عرى حقيقة الأسرة

المسلسل عرى حقيقة الأسرة التونسية المنهارة التي تعيش الكثير من المشاكل وتعيش تناقضات عديدة .. أسرة يشقها الكثير من التفكك والخلافات والتصدعات الأخلاقية والسلوكية والعلائقية .. أسرة تخلت عن دورها في تربية أبنائها وأحالت هذه المهمة إلى الشارع وإلى المدرسة وهي اليوم أسرة متبعة ومرهقة لم تعد هي القدرة لأبنائها .. وأسرة ‘مستقيلة’ عن كل ما في محيطها الخارجي وأسرة غير قادرة على مسايرة تحولات أبنائها وغير قادرة على مراقبتهم ومرافقتهم في أوقات الحاجة والضرورة وفي هذا المستوى من تعرية الحقيقة فإن المسلسل يحاكم ويدين خيار الثقة الذي سلكته الأسرة التونسية حينما منحت أبناءها حرية مفرطة وثقة واسعة فكانت النتيجة صناعة جيل متهور فهم الحرية على غير حقيقتها من دون مسؤولية ..

جيل ضائع…

جيل يمتلك حرية محررة من كل القيود مع ثقة مفرطة من طرف العائلة التي توهمت أنها منحت أبناءها منسوبا من التربية ما يسمح لهم أن لا يقعوا في المحظور والنتيجة جيل في معظمه يعيش حالة التيه والشرود والضياع وهي حالة تعبر عنها حالة الملل لدى التلميذ وحالة التمرد على الدرس والمدرس وحالة الرفض للانضباط وحالة التيه في معرفة الجواب عن سؤال لماذا ندرس؟ ولماذة نذهب كل يوم الى المدرسة؟

عطب كبير

المسلسل عرى حقيقة العطوبة التي يعيشها المجتمع بأسره وتعيشها المدرسة فاليوم لدينا عطب كبير في وضعية المدرس الذي يعيش حالة من العجز تمنعه من التصرف وتشل حركته وتفقده الفاعلية تجاه واقع مريض تفوق عليه بفعل خيارات تربوية وسياسات تعليمية جعلت منه مجرد ملقن للمعلومة ودوره يقتصر على ضمان إنهاء الدرس في وقته والتقيد بالمقرر السنوي .. اليوم لدينا عطب في المعلم الذي لم يعد يشغله إلا تدبير حياته الخاصة والتفكير في تغطية حاجياته المنزلية وتسوية مشاكله اليومية ولدينا عطب آخر في طبيعة العلاقة بين الفاعلين في المدرسة ومشكلة في نوعية التواصل بين التلميذ والأستاذ والإدارة وهي عطوبة علائقية خطيرة حينما ينعدم الفهم وينعدم التواصل ويتحكم سلوك الغلبة والعناد ويحل محلهما لغة العنف والقوة وهي حالة من حالات الفراغ التي يسميها المفكر الكبير  مالك بن نبي بالفراغ الأسري المدرسي الذي يتم ملؤه بفضاءات أخرى من صداقة وعلائق مختلفة تتشكل خارج إطار الأسرة وهي حالة تنتج ما يسميه  بن نبي ” بالمتعلم المستغرب ” الذي يصبح فيها التلميذ غريبا عن المدرسة والمعلم والزمن المدرسي والبرنامج الدراسي فكل هذه الأمور لا تعنيه وهي غريبة عنه وخارج اهتماماته وحينما يكون المتعلم مغتربا في واقعه حينها تنقطع كل الروابط والعلائق التي تصله بعائلته ومدرسته ومجتمعه وحينما يحصل كل ذلك تغيب الفعالية عند الفرد ويتغير سلوكه ويحصل الملل والضياع والتيه ويختفي أي معنى للأهداف والخيارات والأمل في المستقبل و حينها نتوقع أن يحصل كل شيء.

فراغ تام..

المسلسل تحدث تقريبا عن كل هذا العطب المجتمعي والمدرسي وهذا الفراغ الأسري والمدرسي وتحدث عن انهيار منظومة تعليم بكاملها هي اليوم تحتضر و في آخر أيامها وعن جيل تائه ، شارد و ضائع فقد كل الرؤية وفقد نماذج إرشاده وفقد القدوة في حياته تحدث عن جيل أفسدوه وضيعوه بخيارات تربوية فاشلة وبسياسات تعليمية خاطئة مستوردة لا تصلح بنا ولا هي مفيدة لنا ومع ذلك فهم متمسكون بها .. جيل جعلوا منه مشروع فلوجة جديد بعد أن انهارت لديه كل القيم وكل النماذج وعمت الفوضى في حياته .. قالت المديرة في المسلسل : ” أحنا دورنا موش باش نربيولهم أولادهم من جديد احنا نقوموا بواجبنا فقط  وهو أنا نقري لا غير .. كل المأساة هنا…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى